سبب الاقتراح مفهوم طبعا، وسبق وأن أثير من بعض مراكز الأبحاث منذ فترة كحل يضمن تقليل عائدات روسيا من الصادرات دون حرمان السوق العالمية من سبعة ملايين برميل يوميا تصدرها روسيا. فمنذ بدأت العقوبات الأميركية والغربية على موسكو مع الحرب في أوكرانيا نهاية فبراير الماضي، والاقتصادات الغربية تعاني من تبعات العقوبات ربما أكثر من تضرر روسيا نفسها.

تفتق ذهن "مهندسي" العقوبات، من أمثال رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، عن حل يقلل الضرر على الغرب ويضر روسيا أكثر. فبدلا من حظر استيراد النفط الروسي، وبالتالي استمرار ارتفاع معدلات التضخم في الدول التي تفرض العقوبات مع الزيادة الصاروخية في أسعار الطاقة، ظلت روسيا تصدر لكن لا يشتري أحد نفطها بأعلى من سعر معين وبالتالي تقل عائداتها.

فقد أثبتت المئة يوم الأولى على الحرب أن العقوبات ربما حتى أفادت روسيا من حيث لا تقصد ولا يقصد الغرب الذي أصبح تأثير العقوبات على مواطنيه أشد وطأة مما هو على الروس. وبالتي فشلت استراتيجية إثارة الغضب الشعبي على القيادة الروسية بهدف تغييرها من الداخل، كما تسعى واشنطن ولندن وحلفاؤهما. بل وأدت العقوبات إلى نتائج عكسية بزيادة أسعار الوقود والغذاء وتباطؤ النمو الاقتصادي في الدول الغربية مقابل زيادة العائدات الروسية وارتفاع فائض الحساب الجاري للحكومة في موسكو.

تبنت الولايات المتحدة الاقتراح في قمة مجموعة السبع، لكن بمجرد طرحه أدرك المجتمعون أنه لا يمكن تطبيقه ما لم يضمن القادة تعاون دول أخرى خارج منظومة القوى الغربية التي تفرض العقوبات على روسيا. وللتذكير فقط، فنصف العالم تقريبا لا يتبنى الموقف الأميركي/البريطاني من الحرب في أوكرانيا، وتحديدا لا يشارك في استراتيجية خنق روسيا وإحداث اضطرابات داخلية فيها تؤدي إلى تغيير النظام. وبدا ذلك واضحا منذ أول محاولة لاستصدار قرار من الأمم المتحدة لإدانة روسيا فتغيب وامتنع ورفض نصف الأعضاء تقريبا.

وهكذا، في اليوم الثاني لقمة السبع دعيت الهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا للمشاركة في النقاش حول اقتراح سقف السعر. ولم تصل المناقشات إلى أي نتائج حاسمة. ومن غير الواضح مصير ذلك المقترح بعقوبات "استهدافية" تؤذي روسيا ولا تؤذي الغرب. لكن الأرجح أن تطبيقها يكاد يكون من المستحيل.

فناهيك عن أنه لا يمكن لأميركا وبريطانيا فرض ذلك على بقية العالم، ولا حتى عبر الأمم المتحدة، فإن حتى احتمال موافقة دول كثيرة لا تعني التزامها بذلك. ومن شأن محاولة فرض أمر كهذا على بقية العالم أن يفقد سلاح العقوبات نفسه، الذي تستخدمه أميركا والغرب، ضد اي دولة لا تتفق مع سياساته ومصالحه أهميته. إذ سيتجرأ بقية العالم أكثر فأكثر على انتهاك أي نظم عقوبات حتى لو كانت "دولية" وليست فقط "غربية".

من نافلة القول طبعا الإشارة إلى الحقيقة المرة، وهي أن تقنين سعر أي سلعة عالمية بهذا الشكل لا يتناقض مع قواعد السوق الحر والمفتوح فحسب بل ينسف إحدى أسس قواعد التجارة الدولية. أما تأثيره على أسواق الطاقة، فمن الصعب توقعه إذ إن الخلل المحتمل في معادلة العرض والطلب سيكون أكبر من تصور أصحاب الاقتراح.

هذا التفكر الشعبوي الفج من قبل بعض الحكومات الغربية مرده الأزمة الداخلية التي تواجهها بسبب فشل تلك الحكومات في تلبية متطلبات شعوبها. وهذا أمر سابق حتى على الحرب في أوكرانيا، وبدأ يتصاعد منذ صيف العام الماضي. فقد ركنت تلك الدول إلى أن التعافي ما بعد أزمة وباء كورونا سيكون قويا بما يجعل معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة بشكل سريع تعادل كل المشاكل الاقتصادية من تضخم وبطالة وتدهور مستويات المعيشة. لكن ما حدث أن الانتعاش كان لمجرد لمحة من الوقت ما لبثت أن انطفأت مؤدية إلى تباطؤ شديد ينذر بركود وربما حتى كساد عميق طويل الأمد.

وتغلبت السياسة على الاقتصاد فيما يتعلق برد الفعل على حرب أوكرانيا، إذ وجدت واشنطن (ومعها لندن إلى حد ما) فرصة لاستعادة ريادة مفقودة في العالم بتكوين تحالف غربي ضد روسيا والصين. ولأسباب انتخابية في أميركا تهدد الحزب الديموقراطي الحاكم وبسبب الأزمات المتتالية التي تواجهها حكومة حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا وغضب الناخبين عليها يتصلب موقف واشنطن ولندن، ويجر معه بقية الغرب تقريبا، ضد روسيا وربما الصين لاحقا.

لكن بداية ظهور رد الفعل العكسي للعقوبات بما يضر تلك الحكومات أكثر ويزيد من نقمة شعوبها عليها أوقع قيادات تلك الدول في حالة اضطراب، حتى أصبحت تريد إعادة كتابة كل الأسس والقواعد للتعامل في العالم. لكن ذلك حتى ربما لا ينفعها، بل سيزيد خسائرها داخليا ويضر ببقية دول العالم وليس روسيا فقط.