في الوقت نفسه، تريد موسكو انفصال تلك المناطق ذات الأغلبية الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا وربما ضمها إلى روسيا فيما بعد كما حدث مع شبه جزيرة القرم عام 2014.

أما الاتهامات الغربية لروسيا فهي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد إعادة بناء "روسيا العظمى" بضم أجزاء من دول الاتحاد السوفييتي السابق التي انفصلت بعد انهياره في ثمانينيات القرن الماضي. وتطال الاتهامات الغربية الصين كذلك بأنها تسعى لضم تايوان.

من الصعب تصور تلك التطورات عن الساحة العالمية بعيدا عما حدث منذ نهاية الحرب الباردة، وحديث بعض الغربيين المبالغ فيه عن "نهاية التاريخ" وكأنما الوضع استقر لقوة عظمى وحيدة وتسيد للراسمالية الغربية بتوجهها النيوليبرالي. فالواقع أن تلك الفترة، منذ الثمانينيات من القرن الماضي حتى الآن، شهدت صعودا مضطردا للتوجهات الانعزالية وجماعات عنصرية من اليمين المتطرف وتفوق البيض والنازيين الجدد مع جماعات فوضوية ولا تقل شططا من اليسار المتطرف كذلك.

في المقابل، شهدت منطقتنا بروزا لتيارات كانت بدأت على استحياء في سبعينيات القرن الماضي نتيجة تغيرات اقليمية. وبدأت جماعات الإرهاب المتسربل بالدين تكسب أرضية في عدة دول في المنطقة وساعد على تعزيز قدراتها تكوين عدد من الجماعات أبرزها القاعدة وداعش. وكانت تلك الجماعات خرجت في أغلبها من رحم تنظيم الإخوان بداية من الجماعة الاسلامية المسلحة إلى جماعة الجهاد وغيرها.

وقبل عقد من الزمن، كتبت في هذه الزاوية عن سعي تلك الجماعات للقضاء على "الدولة"، وذلك في مقال بعنوان "جماعات لا دول" أعادت نشره بعض الصحف منها صحيفة المدينة السعودية وقتها. والأصل في ذلك أن جماعة الإخوان، بتكوينها الأساسي، لا تعرتف بالدول الوطنية وتعتبر أن مؤسساتها – خاصة الجيوش الوطنية – عدوها الأول والرئيسي فتعمل على استهدافها بالعنف والإرهاب.

صحيح أن الوضع عالميا، وفي الغرب تحديدا، لم يصل إلى حد تغول جماعات التطرف والإرهاب العنصري لتصبح تهديدا ذا معنى للدولة في تلك البلدان. لكن هناك تطورات بدأت ولم يكن من السهل إغفالها أو عدم ربطها بالتطورات في منطقتنا. لأن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، بيئة مناسبة للاختبارات خلال الحرب الباردة وما بعدها علا نجم الجماعات من أفغانستان إلى الجزائر في الوقت الذي أصبح مصطلح "المنظمات غير الحكومية" وجماعاتها بندا راسخا في العلاقات الدولية. ووصل الأمر إلى أن الأمم المتحدة، في سياق البحث عن دور يحافظ على بقائها، حيث طرحت مسألة إعادة صياغة مفهوم السيادة للدولة بما "يشرعن" دور الجماعات العابرة للقوميات. لكن ذلك التوجه الذي حاول الراحل كوفي أنان، بدعم من الفرنسي برنار كوشنر والبريطاني اللورد أشتون وغيرهما، الدفع به سرعان ما خفت وتراجع.

تلك الخلخلة، ومحاولات ضرب الجماعات دور الدولة، أتاحت فرصة لما سمي بعد مرور عقد من القرن الحالي "الثورات الملونة" التي بدأت من أوروبا الشرقية والوسطى ثم كانت نهايتها فيما سمي "الربيع العربي" في منطقتنا. بعد ذلك بدأ انحسار تأثير تلك الجماعات وإن لم يؤد إلى نهايتها تماما، رغم المؤشارت الواضحة على عودة "الدولة" لتتقدم على "الجماعة" مع ادراك الجماهير لأهمية الدولة الوطنية ودورها في تنظيم شؤون الناس مقابل عبث وهمجية الجماعات أو شططها وانتهازيتها.

تركت تلك العقود تركت خلخلة في عدة دول واستمرار جماعات تتغول على دور الدولة بل وتتجاوزه أحيانا ودوائر مصالح ارتبطت بتلك الجماعات والمنظمات غير الحكومية تقاتل من أجل استمرارها. ومن النتائج الجانبية لمحاولة تغليب الجماعة على الدولة أن انتهى الأمر بتحول البعض إلى دول فاشلة تشكل خطرا كامنا على ما حولها وتهدد عملية ترسيخ أي نظام دولي، أحادي القطب أو متعدد الأقطاب.

وأيا كانت نتيجة الحرب الحالية في أوكرانيا، فيمكن للمرء تصور أنها امتداد لجهود عودة الدولة الوطنية لمكانتها ودورها في حماية شعوبها وتأمين مستقبلهم وحماية أمنهم القومي. لا يقتصر الأمر هنا على روسيا فحسب، بل إن التوجه الآن في الغرب أيضا هو التراجع عن "استخدام" الجماعات (من متطرفة لديهم إلى المتطرفة لدينا) لتحقيق الأهداف الاستراتيجية في العلاقات الدولية. ولا يهم هنا شكل ما ستنتجه الحرب وما بعدها من نظام عالمي أحادي القطب أو متعدد الأقطاب أو ختى لا نظام اطلاقا. إنما المهم أنه في أي ترتيب تالي ستكون الدول الوطنية استعادت قدرا كبيرا من مكانتها ودورها التقليدي.

ربما يرى البعض، خاصة من بقايا اليسار، أن ذلك ليس بالأمر الحسن دون أن يدرك هؤلاء أن البديل كان هو الجماعات التي أول ما ستفعله هو ابادة مناوئيها من اليسار وغيره بعد أن تعاونوا معهم.