هذا سوف يعني أيضاً أننا بتعمّد تجاهل الدلالة الحقيقية لكلمة "ثورة" في اللغة، لا نكتفي بأن نخذل الوجود، بصفته قريناً للغة، ولكننا نخون المنطق، ليقتصّ منّا الواقع، عندما يحيا تجربة ما نسمّيه ثورة، عقاباً لنا على استهتارنا بالمفهوم الذي نتغنّى به في كلمة "ثورة". ففي الوقت الذي نحسن فيه الظنّ بالثورات، فنحاول أن نستنزل في هذه الحركة أبعاداً غيبيّة، أو فلنقل، حكمةً دينيّةً، يأبى الواقع إلّا أن يسفّه حسن هذه الظنون، ليعلن بالبرهان الذي لا يأتيه الباطل، أن الثورة ما هي، في حقيقتها الحقيقية، سوى التجديف في حقّ هذه الحكمة الدينية، أي إدانة تلك النزعة التخريبية، أو فلنقل تلك الروح الشيطانية، التي اعتاد حكيم في مقام ديستويفسكي أن ينادي بها في كل أعماله الروائية، سيّما في "الممسوسين"، التي صارت إنجيل المغامرين، المعتنقين لدين العدميّة، في واقع المجتمعات الاوروبية.

وكي نستطلع البرهان ليس لنا إلّا أن نحتكم إلى ساحة اللغات. فـ الثورة في العربية استعارة من "الثور"، ذلك الحيوان الأهوج، المشهور بـ الهياج. أي غضبة الحدود القصوى. وفي "لسان العرب" الثائر، كناية عن الانسان الغضبان، بقطع النظر عن سبب الغضبة، وهو ما يعني أن الثورة عبارة عن فورة. فورة انفعال، تؤدّي إلى اقتراف حماقات، بل خطايا، لا في حقّ المحيط الطبيعي أو الاجتماعي وحسب، ولكن في حقّ صاحب الغضبة نفسه، بقطع النظر عن سبب الغضبة، لأن اللغة ليست معنيّة بالبحث عن الأسباب هنا، ولكن رسالتها التعبير عن الواقع. ولذا لا يتردّد منطق اللغة في إدانة هذه الفورة الانفعالية الهوجاء الدالّة على الاستسلام لرجسٍ من عمل إبليس، المؤدّي لتعطيل العقل، وارتكاب حماقات في حقّ الواقع، لا تلبث أن تتحوّل آثاماً تستدعي المساءلة لاستنزال قصاص.

فأن تكون الثورة سورة غضب، بسبب هيمنة جور في واقعٍ مّا، فهذه حيثيّات تهمّ من وجد في نفسه الكفاءة الأخلاقيّة كي يترافع عن رموز الثورات. ولكنها حجج لا تعترف بها معاجم اللغات. لماذا؟

ببساطة لأن الحياد من شيم اللغات. وهي لا تنوي الانحياز إلى أي طرف في النزال بين القطبين، حتّى لو كان أحد الأطراف في الصراع جلاداً، والطرف الآخر ضحيّةً. بل أن اللغة تأبى إلّا أن تنصف المتّهم أيضاً عندما تطلق في العربية، على عمل خصمه اسماً آخر هو: العصيان!

فعندما يحاجج صاحب الثورة، في ساحة المنطق، بحقّه في القيام بتغيير واقعٍ مّا، بحجّة وجود الجور، فمن حقّ وليّ أمر هذا الواقع أن يتّهم هذا المريد بالعصيان، لأنه استعار لنفسه صلاحيات الأقدار، المفوّضة وحدها بتغيير ما بواقع تلك الظلال، التي تثقل كاهل الأرض، فتعطي لنفسها حقّ التدخّل في شئون الأقدار، وهو ما يعدّ تجديفاً في حقّ غيوبٍ، هي وحدها أعلم؛ بما ليس للإنسان أن يعلم!

والتجربة برهنت أننا، مهما تعاطفنا مع مريدي الثورات، استجابةً لنداء رومانسيّتنا، وشغفنا الفطري الخفيّ، بعدالة عمل الثائر، وصواب حجّته التدميرية؛ بيد أن الواقع يأبَى في كل مرة إلّا أن يخذلنا، لأن الأقدار لا تلبث أن تقول كلمتها في النهاية، مترجمةً في حرف الفشل، الذي كان، منذ الأزل، لعنةً لاحقت وتلاحق الثورات.

نحن نعزّي انحيازنا الأبديّ للثورات بحجّة وجوب الوقوف مع المظلوم في نزاعه المصيري مع صاحب الجور، ليقيننا بأن الجور شرّ، والعدالة ضمان وجود حقيقة، ولا نستيقظ من غيبوبة يقيننا، إلّا عندما يخفق تغيير ما بالواقع في تحقيق العدالة المأمولة، لنشهد كيف ينتكس إيماننا العميق بوجود حقيقة، فلا نملك إلّا أن نتساءل، مع الحكيم بيلاطوس، في استفهامه، الموجّه للسيّد المسيح: "ما هي الحقيقة؟"، فتعجزنا مواهبنا الأرضيّة عن الجود بالجواب، الذي لم يملك حتى صاحب النبوّة لمعالجته حيلةً، عندما قال: "حقيقتي ليست من هذا العالم!"

فهل نستطيع أن نتنصّل من هويّتنا الأرضيّة، ونتفوّق على طينتنا الدنيوية، لنكون جديرين بالانتماء إلى ذلك العالم، الذي استجار به المسيح في المواجهة مع حاكم اليهوديّة، في الموقف حول الحقيقة؟

فأفيون الثورة، منذ الأزل، يكمن في الموقف من الحقيقة. هذه الحقيقة التي لم تكن يوماً سليلة الواقع، ولكن المسألة أنها رهينة الروح. فبأيّ حكمة تهرع لنجدتنا بقيّة اللغات، في شأن ما غدا أفيوناً في تجربة أمم الجنس البشري؟

تستخدم اللغات الأوروبيّة مصطلح revolution، استعارةً من اللاتينيّة، للتدليل على حركة ما نسمّيه في العربية "ثورة". وما يجب أن نلاحظه في هذه القيمة هو ما يبدو لأول وهلة تعديلاً بريئاً لأصلٍ سخيّ الفحوى: هو evolution، الدالّة على التطور. فإذا شئنا فهم هذا الانقلاب المفاجئ في الصيغة التعديلية للكلمة، التي لا تخلو حقّاً من روح ثوريّة، فليس لنا إلّا أن نعمد إلى تجريدها من حرف re، الذي يترجم دوماً مفهوم (الردّة) في أي كلمة في اللغات المنبثقة عن اللاتينيّة، فلا تعود المغامرة مجرد تعديل، ولكنها تنقلب انقلاباً على الأصل، تنقلب نفياً صريحاً لسابقتها. فعندما ننوي التعبير عن الفعل بمنطوق action، ليس لنا إلّا أن نحتكم إلى ساحة الـ re هذه إذا شئنا التراجع عن الفعل بردّة تنفيه عن حقيقته، فنقول: reaction؛ لأن الـ re في لغة البدايات تعني الإعادة، أي الارتداد، أو حرفياً: الردّة، كما ما تزال تجري في لسان طوارق الصحراء الكبرى إلى اليوم. فما معنى أن تتنكّر الـ(revolution الثورة) لحقيقتها، وتخيّب حسن ظنّنا بها، لترتدّ عن مبدأ الـ(evolution التطوّر)، الذي سوّقه لنا مريدوها كحجّة للتضحية بواقعٍ وجوديّ محتمل، مقابل نيل واقع بديل لا يحتمل، كما يحدث بمشيئة قيام ثورة؟

ألن يكون القبول بمبدأ الثورة آنئذٍ ضرباً من خيانة لوصيّة اللغة، وتحدّياً لمنطق الوجود بالتالي، لن نأمن بموجبه تلقّي القصاص؟

للتأكيد على تهاوننا في استنطاق المفهوم، الذي أتحفتنا به اللغة، ليس لنا إلّا أن نستجير باليونانية طلباً للشورى في شأن ماهيّة هذه الجنيّة اللئيمة، حيث يهدينا لسان الانسان المفطور على الحكمة عبارة تقول: επανάσταση كناية عن الثورة. وهو بُنْية تعبيرية ملفّقة من epa الدالّة على: الغياب، ثمّ نون الملكيّة، ثمّ stase الدالة على الاستقرار، لتستوي الجملة في: غياب الاستقرار، للتدليل على تلك الفوضى، التي اعتادت الثورات أن تتعاطاها، حتى تحوّلت بحكم العادة أفيوناً، استطاع أن يطيح بواقعٍ قائم، أوجده تطور (evolution) استغرق عهوداً، ليُستبدل بواقعٍ، كل رأسماله حلمٌ محالٍ إلى مستقبلٍ موعود، ولكنه الوعد الذي ليس له أن يتحقق، لأن ليس للارتداد، الكامن في أحجية الـre، أن يتمرد على طبيعته، فيجبر ردّة، تسكن الـ revolution كانتكاسة لمفهوم الأصل، الكامن في الـ evolution فيطوّعها، كي تكفر بدينها، لتعتنق دين الخصم، دون أن يكون ذلك تجديفاً في حقّ طبيعة الأشياء. فالمفارقة أن الثورة التي أُريد لها أن تحقق التطوّر، كما يتشدّق مريدوها، هي معادية للتطوّر بمشيئة المفهوم، الذي بثّته فيها اللغة، ومعادية، بالتالي، لناموس الوجود، الذي لم يكن له أن يكون غير ناموس اللغة نفسها. وهو ما يعني أن الثورة، في الواقع، وفيّة لمفهومها، وعندما تخذلنا (لأنها لا تحقق ما انتظرناه منها) فتلك خطيئتنا نحن، لا خطيئة الثورة، لأن نحن مَن أساء فهم المفهوم، الذي بشّر به دهاة اللغات عبر الأزمنة، ففوّضناها كي تنزلنا فراديس أحلامنا بالإنابة عنّا، كي لا ندفع المكوس التي تستوجبها التضحية في سبيل تحقيق ذلك التطوّر، الذي لا يُنال بدون نزيف عرق، وبدون نزيف دم.

فالرهان كان، منذ الأزل، على هذه البطولة المرجعيّة، المعبّر عنها بهذه المفردة البريئة: التطوّر؛ لأن الوقود السحري في مسيرة الإنسان، منذ مهده حتى لحده، إنّما حدث ويحدث بفضل التطوّر، بفضل الـ evolution، أي تلك التجربة العصيّة التي لا تتحقق بدون معراج: معراج يلعب فيه التنوير دور البطولة في أوديسة التطوير. التطوير الذي لا يستقيم بدون خوض إلياذة تغيير. والتثوير الذي يستهوينا لا يحتلّ موقعاً يتموضع خارج الذخيرة التي تسكننا، ولكنه يقع في صميم حضورنا، في صميم وجودنا، لأنه يسكن فينا الروح، التي تسكننا، وليس الواقع الذي نسكنه. وليس لنا إلّا أن نجازف بتغيير ما بأنفسنا، إذا شئنا أن نحرر ما بأنفسنا، نحرّر ما بالأصل في المعادلة التنويرية، لنكون شهوداً على حدوث التغيير في انعكاسنا، الذي يسكن الواقع الذي نسكنه، لأنه المرآة للكنز الذي يسكننا، ولا نفعل شيئاً كي نستنطقه فينا، لا نفعل ما من شأنه أن يحييه فينا. وتجربة التغيير، عندما تحدث فينا، هي رصيد المغامرة البطولية، المغامرة التنويرية، المشترطة في ملحمة التطوير؛ هذا هو التطوير الذي عناه عرّاب العقل البشري، عرّاب التغيير الحقيقي، عرّاب التحرير، الأجدر بأن نعتنقه في منهج التطوير، والأحقّ بأن نعتنقه في هوسنا بالتثوير، عندما أخبره أحدهم بقيام زلزالٍ جللٍ هو الثورة الفرنسيّة، ظانّاً بهذا أنه يزفّ بشرى لملك العزلة "عمانويل كانط"، فما كان من سليل الغيوب ذاك إلّا أن ابتسم ليعلّق قائلاً: "وهل تسمّي هذا ثورة؟ الثورة الحقيقية هي الثورة التي كان لشخصي شرف القيام بها!"

كاهن الزمان كان يعني بالطبع إنجيل الجيل، الذي ورثناه في اسمٍ جليلٍ هو: "نقد العقل الصريح"، الذي اختطّه الراهب بنزيف الروح، كي يحرّر به عقلاً، كان حتى ذلك التاريخ أسير الواقع الحرفيّ، ليحقّق، بهذه التضحية، ثورة الروح.

فأين موقع ما نسمّيه تثويراً، في سلّم المفتتح الذي يبدأ بالتغيير (تغيير ما بالنفس طبعاً، لا الظمأ الطائش بتغيير ما بالعالم)، ليتواصل في حركة تحرير، لا تهنأ بالاً ما لم تستوِ في حرف التثوير، لتحقق الخلاص في حملة التطوير، التي لا تراهن على غنيمة الأنانية، مثل نيل السعادة، ولكنها تقبل التحدّي، لأن الغاية تغدو أداء الواجب!

ما معنى أداء الواجب؟

أداء الواجب يعني أن نجود بنصيبٍ سخيّ من أنفسنا، لكي نشتري بهذا القربان حضوراً كان مفقوداً في أنفسنا، يعيد لنا ثقةً، يعيد لنا الحقيقة الضائعة في أنفسنا، لذا كانت السعادة أبداً، رهينة أداء الواجب!