وردت هذه الجملة في كتاب له كانت هذه الجملة عنوانه ايضاً، لوصف الأزمة التي عصفت، في عام 1903، بحزب العمال الديمقراطي الاجتماعي ( الذي أصبح الحزب الشيوعي فيما بعد ) وأدت إلى انقسامه بين بلاشفة (تعني بالروسية الأغلبية) نعتهم لينين بالثوريين، ومناشفة (تعني الأقلية) نعتهم بالانتهازيين. أُعتبر هذا الشق بين البلاشفة والمناشفة على أنه ضربة موجعة لليسار الروسي في حينها، لكن لينين نظر إلى الأمر على نحو مختلف بوصفه تطوراً منطقياً (دياليكتيكاً) ينطوي على خسارة مؤقتة حالية مقابل كسب مستقبلي أكثر رسوخاً لصالح تشكيل حزب ثوري أكثر انسجاماً وانضباطاً وقدرةً على قيادة التغيير. ذكر في كتابه، الصادر في 1904، أن واقع "خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء، أمر يحدث في حياة الأشخاص ويحدث في تاريخ الأمم، وفي تطور الأحزاب، لكن سيكون من الحمق الإجرامي الشك ولو للحظة بالانتصار الكامل لمبادئ الديمقراطية الاجتماعية والتنظيم البروليتاري والانضباط الحزبي".

رغم الاختلاف الشاسع ظرفيا وزمانياً بين الوقائع العراقية والروسية، وعدم صلاحية توصيفات الحل الشيوعية بخصوص حكم البروليتاريا وهيمنة "الحزب القائد" التي أظهرت التجارب العالمية فشلها المتكرر، فإن ثمة جذر يمت للحقيقة بصلة بخصوص الفائدة المرتجاة من شدة التراجع أحياناً (خطوتان إلى الوراء) الذي يعقب خطوةً إيجابيةً إلى الأمام، إذ يوفر هذا التراجعُ، رغم مرارته الآنية، وضوحاً مفيداً يساهم في فهم وتفكيك تشابك القوى وأدوارها المختلفة لدفع قضية التغيير الإيجابي إلى الأمام مستقبلاً.

في الأسبوعين الماضيين عاش العراق وضعاً شبيها بمشهد التقدم خطوة الذي يعقبه التراجع خطوتين، فمع قرار الحكومة العراقية باعتقال القيادي في الحشد الشعبي، قاسم مصلح، بتهمة تدبير اغتيال الناشط الاحتجاجي ايهاب الوزني، ظهرَ وكأن الدولة العراقية خطت خطوة مهمة وكبيرة إلى الأمام بشأن إنفاذ القانون على الجميع، فلأول مرة منذ 2003، يُتهم مسؤولٌ أمني او ميليشياوي رفيع بجريمة اغتيال ويُقدم إلى القضاء، بخلاف ما هو سائد عراقياً، إذ مرت، من دون مساءلة أو عقاب، مئات عمليات الاغتيال التي استهدفت ناشطين وإعلاميين ومعارضين، معظمها إن لم يكن كلها سياسية الطابع. كانت جرأة خطوة الاعتقال واضحةً، من خلال شدة الاعتراض عليها من جانب قوى الحشد التي كانت مستعدةً للدخول في مواجهة عسكرية مع الحكومة لإطلاق سراح الرجل واسد الطرق على احتمال قيام الحكومة مستقبلاً باعتقالات شبيهة. بالنسبة لهذه القوى، شكلَ الاعتقال سابقةً خطيرة تهدد هيمنة الجماعات السياسية والميليشياوية على الدولة التي تستند هيمنتها هذه على تمتعها بحصانة فعلية وغير معلنة من المسائلة القانونية على أفعالها الكثيرة غير القانونية.

ترقب العراقيون نهايةَ مشهد المواجهة هذا بين "قوى الدولة وقوى اللادولة،" بحسب الاصطلاح السائد في الخطاب السياسي العراقي، لتنتهي سريعاً لصالح "قوى اللادولة" بإطلاق سراح سريع وغير مقنع للمتهم. برغم غموض ما حصل، وسرعته الفائقة، إذ يكاد يكون مستحيلاً من الناحية العملية، وليس القانونية، أن تُحسم قضية تندرج تحت المادة ٤ من القانون العراقي المتعلقة بمكافحة الإرهاب، في خلال فترة أسبوعين كما في حالة القيادي الحشدي الذي اعتقل بموجب هذه المادة، فإن النتيجة التي رشحت هي ترسيخ القناعة الشعبية أن "قوى اللادولة" هي التي تهيمن على الدولة وقرارها هو الذي يمضي في اللحظات الحاسمة، وليس قرار "قوى الدولة". على الأكثر لن يكون بإمكان اي تفاصيل تقدمها الحكومة أو القضاء بخصوص هذه القضية أن تغير هذه القناعة الشعبية التي تستند على تاريخ طويل من عجز الدولة عن تطبيق القانون على الجميع بمساواة.

المقلق في هذه القناعة الشعبية، بغض النظر عن صوابها أو مشروعيتها، هي انها تغذي الاعتقاد المنتشر واسعاً بين الناس أنه لا أمل بإصلاح منظومة الدولة عبر الأدوات المؤسساتية والقانونية التي تتيحها هذه المنظومة. لم يصنع المجتمعُ حس اليأس هذا، بل صنعته المنظومة السياسية التي تقود الدولة وهي التي تتحمل نتائجه المقلقة. هنا تكمن خطورة "الخطوتين إلى الوراء" ففقدان الأمل بإمكانات الإصلاح المؤسساتي الداخلي سيدفع الكثيرين، ومن بينهم قوى الاحتجاج، إلى تبني خيارات ثورية تعني استهداف كامل النظام السياسي واطاحته عبر الشارع، والتخلي عن الخيارات الإصلاحية التي تستخدم ضغط الشارع لإصلاح المؤسسات وتعديل سلوك القائمين عليها.

عندما وجد لينين في 1903 أن "التقدم خطوةً والتراجع خطوتين" يمثل خسارةً ايجابيةً على المدى الطويل باعتباره تطوراً ديالكتيكياً ضرورياً، كان ذلك لان الرجل كان يسعى إلى الثورة ويخطط لها واراد ان يعمل مع ثوريين مثله كي يضمن النجاح لثورته المستقبلية، وهذا ما حصل فعلاً في 1917. بخلاف روسيا في بدايات القرن العشرين، لا يحتاج العراق اليوم إلى الثورة، ولا إلى زعامات ثورية تخطط له وتقوده، فتأريخ الدم والصراعات والالام التي أنتجتها الحماسات الثورية المختلفة كلف البلد كثيراً.

العراق بحاجة إلى إصلاح يشارك فيه الجميع، ومسؤولية النخبة السياسية المهيمنة هي الا تدفع الناس إلى دروب الثورة التي ستكون هي أولى ضحاياها. عادةً ما تكون مادة الثورات هي اجتماع الغضب واليأس لدى جمهور واسع ومحروم. يتشكل مثل هذا الوضع الثوري في العراق سريعاً، ولذلك تحتاج النخبة السياسية، عبر افعالها لا أقوالها، ان تقنع الناس انهم ليسوا بحاجة إلى الثورة.