والشاهد أنّ علامة الاستفهام الأولى والمثيرة التي تتراءى لأيّ قارئ: هل حديث بومبيو عن تلك العلاقة أمرٌ جديدٌ؟ وإذا لم يكنْ ذلك كذلك، فما الذي كان بومبيو يهدف إليه من مؤتمره الأخير، والذي يجيء قبل بضعة أيام من نهاية عمل إدارة الرئيس دونالد ترامب؟.

باختصارٍ غير مُخِلّ، يمكننا القطع بأنّ تلك العلاقة قديمة، وليست حديثةً بالمَرّة، وقد مَرّتْ بعِدّة محطّات مصيريّة منذ بدء تسعينيّات القرن الماضي، لا سِيّما قبل وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي أَكَّد بومبيو أنّ إيران دعمت وزخمت فيها القاعدة بشكل كبير وواضح، ثمّ فترة واضحة بعد انهيار نظام صَدّام حسين، وصولاً إلى تقديم المأوى إلى أعضاء القاعدة، وبعض من كبار قادتها خلال أحداث ما اصطُلِحَ على تسميته بأحداث الربيع العربيّ.

من أين جاءت معلومات بومبيو، رجل الاستخبارات المركزيّة من قبلُ وسَيّد الخارجيّة الأمريكيّة حتى التاسع عشر من الشهر الجاري؟
مُؤَكَّد أنّها من عند اللحظات التي تمّ فيها اغتيال بن لادن في "أبوت آباد"، حيث تَمّ العثور على مذكرات الجرل، ووثائق أخرى عديدة بلغتْ آلاف الأوراق، جميعها تُظهِر مدى التقارُب والتوتّر بين طهران والقاعدة، وفيها يتّضح مليًّا أنّ طهران عرضتْ تدريب وإمداد عناصر القاعدة بالسلاح والمال، شرط أن يهاجموا المصالح الأمريكيّة في الخليج العربيّ.

قبل أكثر قليلاً من عام، كشف "كليفورد ماي"، مُؤسِّس ورئيس معهد الدفاع عن الديمقراطيّات عند بعض الصفحات الخطيرة في تلك الاوراق، حيث يكشف أحدُ كبار مسؤولي القاعدة أنّ إيران زَوَّدتْ القاعدةَ بكلّ شيء بدءًا من التأشيرات والمال والأسلحة، وحَتّى التدريب العسكريّ في معسكرات حزب الله في لبنان، كما وَفَّرتْ ملاذًا آمنًا لمقاتلي القاعدة مقابلَ ضربِ المصالح الأمريكيّة في المملكة العربيّة السعوديّة ومنطقة الخليج العربيّ.

ومن بين أوراق ابن لادن يتّضح أنّه في العام 2007 تحديدًا، أضحتْ إيران "الشريان الرئيس للأموال والأفراد والاتّصالات  للقاعدة".

ما الفارق بين حضور القاعدة في أفغانستان ووجودها في إيران؟.

مؤكَّد أن السؤال جوهريٌّ ويكشف عن الأيادي الإيرانيّة ودورها في تأجيج الصراعات المُسلَّحة والإرهاب الأعمى إقليميًّا وعالميًّا، فالوجود القاعديّ في أفغانستان جرتْ به المقاديرُ في وسط جبال نائية، وبيئة معيشيّة صعبة وقاسية، وعلى هامش اللادولة، واحتلال الاتحاد السوفيتيّ للبلاد، وتَشَظّي المجموعات الأفغانيّة المقاتلة.

أمّا في إيران، وبحسب بومبيو، فإنّ شيئًا ممّا تقدم لا يوجد،  وأكثر من ذلك، وُجِدت رعاية رسميّة من نظام الملالي لإرهابيّي القاعدة، وقد عرضت عليهم أن يقيموا مقرًّا رسميًّا  في البلاد، لكن شريطةَ الالتزام بالقوانين المحلّيّة.

هل تعاون القاعدة وإيران هو، وعن حقٍّ، علامةٌ من علامات أزمنة المرائين الجدد إن جاز التعبيرُ؟

مُؤَكَّد أنّ مَرَدّ السؤال هو الخلاف العقائديّ بين القاعدة وبين إيران، فالأولى مغرقة في الإطار السلفيّ السنّيّ، فيما الأخرى تعتقد في المذهب الشيعيّ، ومن منصّته تجاهر بالعداء لبَقِيّة الدول السنّيّة وهو أمر لا تُداريه أو تخفيه.

والثابت أنّ الذين لهم دراية برؤية القاعدة لإيران سوف يدهشون كثيرًا جدًّا، فبيانات القاعدة وأجنحتها الإعلاميّة لم تنقطع عن مهاجمتها لإيران والإيرانيّين واصفةً إيّاهم بِـ"الروافض والصفويّين والمجوس". ومع ذلك، تجري العلاقات التحتيّة بينهما، والتنسيق الفوقيّ بما لا يعطي أيّ انطباعٍ لوجود خلافات دوجمائيّة بين الجانبَيْن، الأمر الذي يشي بأنّ هناك نوعًا من الازدواجيّة الإيرانيّة المُرائِية، والتي تهدف إلى تنسيق أداور الشّرّ في المنطقة، وهو ما تقوم به إيران بالفعل من خلال عملها مع حماس، وكتائب القَسّام، وهما جماعتان مختلفتان مذهبِيًّا عنها.

سِرُّ الإثم الإيرانيّ الذي تنشره منذ أربعة عقود وماضية فيه سادِرةً في غَيِّها، هو عينه الذي يجعلها تتفاعل وتتعاطى مع جماعة الإخوان المسلمين بنفس العقليّة وذات المنهجيّة، وهدفها  الوحيد هو إحداث أكبر ارتباك ممكن في الجوار، وتحقيق الحلم الذي لا يزال شاغلها في رفع راية ثورتها العقائديّة على  ساريات الدول العربيّة، والتعبير هنا للخوميني غَداةَ نجاح ثورته العامَ 1979.

تمتلك إيران رؤيةً شريرةً واحدة مع بقيّة الجماعات الإرهابيّة،  ولهذا فإنّ اختلافها العقديّ لم يمنعها من أن توفّر المأوى  لحمزة بن لادن، ورفضت في ذات الوقت تسليم العديد من قيادات القاعدة  الموجودين  على أراضيها، والمطلوبين على الصعيدَيْن العربيّ والدوليّ على حَدٍّ سواء.

يتساءل الذين تابعوا المؤتمر الصحفيّ لبومبيو في نادي الصحافة في واشنطن، ولهم في تساؤلهم ألفُ حَقٍّ: "إذا  كانت لدى واشنطن تلك المعلومات المهمّة إلى هذا الحَدّ، فلماذا  صمتتْ إدارة ترامب حتّى الأيّام الأخيرة ولم تُبادِر إلى الإعلان عنها في بواكير عملها منذ أربع سنوات؟.

الجواب يحمل على النظر كثيرًا في العلاقات المثيرة للجدل والقلق معًا التي ضربت طوال زمن إدارتَيْ باراك أوباما، ذلك أنّه حتمًا كان لدى الرجل كلُّ تلك المعلومات وفَضَّلَ ألاّ يبوح بها من أجل تمكين إيران من الدخول في شراكة مع الستّ دول الكبرى تمهيدًا لإنجاز الاتّفاق النوويّ عام 2015، الأمر الذي يستحقّ فتح ملفّات تلك الفترة، وما جرى فيها من علاقات سِرّيّة بين واشنطن وطهران. وأغلبّ الظن انه لو كان ترامب قد فاز بولاية جديدة ، فلربّما كان قد مضى في فتح التحقيق المقصود.

مهمّا يكنْ من أمر، فإنّ أفضل جواب على  سؤال التأخير في إدارة ترامب، غالبًا سيكون موصولاً بالآمال والأحلام التي كان ترامب يرسمها لنفسه بشأن فوزه بولاية ثانية، وساعتَها كان سيُضْحِي لديه المزيد من الوقت  للتفاعل مع الملفّ الإيرانيّ، وبما يتجاوز بكثير مجرّد العقوبات الاقتصاديّة، ومعنى أن بومبيو ظهر في الربع الساعة الأخيرة، يفيد بأن ترامب وإدارته أرادوا قبل الرحيل، وربّما استباقًا لزحام أيّام التنصيب، مكاشفةَ ومصارحةَ الأمريكيّين بما هي عليه إيران في هذا الوقت، وما تَحيكُه من مؤامرات إرهابيّة للمنطقة والعالم.

على أن هناك كذلك تفسيرًا آخر متممًا ومكمِّلاً له وجاهتُه، وهو أنّ بومبيو أراد أن يُخلي ذِمّتَه أمام الأمريكيّين ممّا يمكن أن يُقدِم عليه بايدن وإدارتُه في علاقتهم مع إيران، لا سِيّما وأنّ الرجل المُرشَّح ليضحي مستشار الأمن القوميّ الأمريكيّ الجديد، "جيك سوليفان"، كان عرّاب الاتفاق النوويّ مع طهران قبل خمسة أعوام ، والحديث دائر حول استئناف الاتّفاق من جديد.

الخلاصة .. من إيران إلى القاعدة لن يعرف الإقليمُ ولا العالمُ الهدوءَ، ولن يَكُفّ سِرّ الإثم عن صراعه مع سِرّ البعث.