ويجب في المستهلّ أن نلاحظ أن جريح المكان (المسيح) لم يطلق حكمه على أيّ وطن، ولكنه وضع الأمر رهين وطن المعني تحديداً وهو النبيّ من خلال ضمير المفرد الغائب، ليؤكّد بذلك على حقيقة تستدعي تأمّلنا.

فما ينفي الكرامة عن الأنبياء ليس المكان، ولكن الحضور في ذلك المكان الذي نشرّفه دوماً عندما نخلع عليه لقباً جليلاً كالوطن، بدليل أن الأنبياء ينتزعون الاعتراف بنبوّتهم ما أن يستبدلوا المكان، ويتنكّروا لذلك المكان الذي أنكرهم لا لشيء إلاّ لأنه مجبول بهويّة ميتافيزيقية نسمّيها وطنا.

وما يُقال عن المكان الذي ينوء بمفهوم الوطن، يقال أيضاً عن قرينه في صفقة الوجود المدعو زماناً. فبقدر ما يكون الزمان بالمطلق حليف النبيّ في شأن إعلاء شأن نبوّته، يكون الزمان عدوّ هذه النبوّة في واقع الحضور في البعد المحدّد. أي الحضور في الآنيّة.

الآنيّة كبرهان على الحضور على خارطة الوجود. وهو ما يقابله الحضور في هذا المكان، وليس في أيّ مكانٍ آخر. وكلمة "هذا" هنا تعني تحديد الحيّز الأرضيّ ذي السجيّة الغيبيّة الذي اعتدنا أن نسمّيه وطناً. هذا يعني أن انتصار الحقيقة المبثوثة في فحوى النبوّة مشروطٌ بالغياب عن مكاننا الميتافيزيقي الذي يروقنا أن نتباهى بالانتماء إليه من دون كل أمكنة هذا العالم. وبالرغم من ذلك يضطهدنا كما لا يضطهدنا أيّ ركنٍ في هذا العالم.

يضطهدنا بسبب حضورنا فيه، في حين لا يتردّد في أن يتغنّى بمآثرنا بغيابنا عنه. وهو مسلك يحاكيه فيه حميمه الزمان أيضاً، فيتنكّر لنا في حضورنا فيه، ولكن يتذكّرنا ما أن نختفي منه. وهو ما يعني أن الوجود (المجسّد في حرف الصفقة بين هذين القطبين) هو في الواقع من يجاهر بالعداء لجناب النبوّة، وبالتالي، لجلالة الحقيقة! وبالطبع فإن الإنسان، بوصفه فحوى هذا الوجود، هو الجلّاد في ملحمة البطش بهذه الحقيقة.

ولكن ما غاب عن الجلاد هو أن الحقيقة عنقاء تبعث نفسها من رمادها باغترابها عن هذين القطبين المعاديين المجسّدين لظاهرة الوجود لأنهما مريدا البعد الفاني الذي نسمّيه في معجمنا "حاضراً"، في حين لا تعترف إلاّ بالأبدية معبودا.

قدر الحقيقة إذاً، اغتراب. قدر الحقيقة اغتراب سواء استقامت في حرف نبوّة، أو استعارت في الفحوى هويّة إبداع. لأن أيّ إبداع من حقّنا أن نخلع عليه لقب إبداع إذا اعتنق التسلية ديناً، على سبيل المثال، وتنكّر لمعبودة الأزمنة وربّة أجيال الخليقة: الحقيقة!.

فهنا أيضاً يرابط الجلاد ليسفّه كل متن مجبول بروح المعبودة، فلا يتردّد في أن يستنزل حكم الإعدام لا في حقّ المتن وحده، ولكن في حقّ صاحب المتن أيضاً بالطبع.

فليس صحيحاً أن الغباء وحده داء بلا ترياق في دنيا الأنام، ولكن الحسد أيضاً داء بلا ترياق. وإذا كان الطبّ قد أفلح في تشخيص كل أمراض الجنس البشري، فلا شكّ أن الداء الوحيد الذي أخفق في تشخيصه هو الحسد. وهو فشل نصّب الحسد سلطاناً غيبياً في الواقع، ليصير في واقع الناس طاغية بلا منازع، بالقدر ذاته الذي صار فيه طاغية بلا منازع في نفوس المصابين به. وما كان الداء ليكون بتلك السطوة التي ألفناها في مفعوله لو لم يهرع الحضور ليكون له عوناً في البطش بضحاياه.

أعني الحضور ببعديه المكاني ثم الزماني. المكاني محدّداً بفخٍّ عظيم هو الوطن، والزماني محدّداً بفخٍّ لا يقلّ وحشيّةً هو الآنيّة، أي الحاضر. الحاضر الذي نتوهّم أننا نملكه ليغدو لنا زماناً، فإذا به هو الذي يملكنا لنكون في براثنه دميةً. ولولا ملكيّته لنا لما استطاع أن يستدرجنا لنجد أنفسنا بين يدي أهل الحسد أسرى في كل مرة نحقّق فيها حلماً أو أمنية لنطلق على هذا التوفيق إسماً خطراً يبدو في عرف الحاسدين خطيئةً لا تُغتفر، وهو: النجاح!.

يكون النجاح في تحقيق أي شأنٍ دنيوي مبرّراً كافياً لنيْل قصاص أهل الحسد، فكيف إذا كان هذا النجاح في شأنٍ رساليّ كالوحي، سواء أكان وَحْياً بنبوّة، أو اصطفاء بعبقريّة؟.

هذا المستوى هو ما يفقد أهل الحسد الصواب فيدفعهم لاقتراف أبشع الآثام في حقّ حمَلَة هذا الوزر بداية بتلفيق الأكاذيب ونهاية بتتويجهم بأكاليل الشوك، تمهيداً لتثبيت أبدانهم على الصليب، ظنّاً منهم أن كتم أنفاسهم سوف يسهم في كتم أنفاس أفكارهم، ولا يدرون أن تلك الأفكار لا تحيا حقّاً إلاّ بهلاك أصحاب الأفكار، بل قيمتها رهينة بمدى غزارة الدم الذي يسفح في سبيلها، ومؤهّل خلودها مشروط بمدى ثراء الشرور المستنزلة على رأس حاملها.

فالتجربة التي برهنت كم يبدو مريد الحقيقة عاجزاً عن الدفاع عن نفسه أمام سطوة شرّ كالحسد لسبب بسيط وهو حاجة كل خصام لحيثيات تثبت البراءة، وصاحب الحقيقة وحده لا يملك لتبرئة ساحته دليلاً، يقيناً منه أن الحقيقة التي تسري في مسلكه الأخلاقي، كما تجري في شرايين دمه، تكفي في المرافعة برهانا، ولكن هيهات!.

فحضور صاحبها قيد الوجود يشلّ منطقها، لأن عضلة اللسان لا تصلح في حملة الدفاع موكّلاً، لوجودها خارج صلاحيّات اللسان بطبيعتها. ولهذا السبب لا تصلح في سحق العصابة المعادية إلاّ بعد سفح دماء القربان.

فكما حضور الروح رهين غياب الجسد، كذلك انتصار الحقيقة رهين غياب حامل الحقيقة، لأنه بمثابة الجسد لفكرة هي فيه روح هذا الجسد، فلا تسطع شمس الفكرة الحبيسة إلاّ بتحرّرها من جسدٍ كان لها قمقماً، لتنطلق لحظتها الفكرة بمرافعتها، لتترجم حُجّتها في ذلك الواقع الحميم، المسكون بالسلام، لأن الزمن الذي غيّب الجسد في المريد، قد استطاع أن يبيد في الواقع الجديد، الشرّ الكامن في محفل أهل الحسد، لأنه غيّبهم أيضاً، كما غيّب مَن اتخذوه خصماً، مع فارق جسيمٍ وهو أن المحسود الذي كان بالطبيعة فانياً، قد صار بالحقيقة خالداً، في حين صار الحاسدون الذين كانوا بالدنيا سطوةً، قد استحالوا بالفناء يباباً.

وهو ما يعني أن العدالة رهينة الحرية. رهينة حرية في حدودها القصوى. رهينة حرية الموت، لأن الموت وحده ينصفنا في عراكنا مع طغيان الجسد، فيميت من أراد بنا الموت، في حين يحيينا بإحياء رسالتنا، في وقت أراد فيه الأعداء موتنا.