ويظهر هذا الخلاف العراقي-العراقي عبر فهمين مختلفين إلى حد التناقض لفحوى السيادة، أحدهما أيديولوجي ومهيمن لحد الآن ويركز على شكل الدولة وجوانبها الاعتبارية بما تعنيه من حس وطني بالكرامة واستقلال مفترض في صناعة القرار، حتى وإن كان هذه الاستقلال هشاً وشكلياً، وفهم آخر براغماتي يربط السيادة بمحتوى الدولة نفسها وتماسك أدائها وفاعلية مؤسساتها وعلاقتها بمواطنيها.

يستند الفهم الأيديولوجي للسيادة إلى إرث سياسي عراقي طويل تمحور حول مفهوم الكرامة الوطنية والتحرر من الهيمنة الأجنبية بوصفها شراً مطلقاً وخطراً على الدولة الوطنية والشعب، وهو في هذا الجانب، يتغذى على التركة التقليدية لحركات التحرر في دول العالم الثالث في مواجهتها للسيطرة الاستعمارية الأوربية التي خضعت لها.

برز الثقل التاريخي لهذه التركة من خلال التعريف الذي رسخته هذه الحركات لمفهوم الحرية بوصفه حرية الدولة والمجتمع من هيمنة دول أخرى أقوى، استعمارية في العادة.

على هذا النحو، أصبحت الحرية حقاً جماعياً للشعب، ممثلاً بالدولة عبر السلطة الحاكمة، إزاء السيطرة الأجنبية واحتمالاتها الكثيرة التي ينبغي سد الطرق لبروزها وتحولها الى واقع، وليس حقاً فردياً للمواطن إزاء السلطة التي تحكمه يمكن عبر ممارسته من خلال أشكال حرية التعبير الكثيرة إصلاح الدولة وتقويم أداء مؤسساتها.

هكذا تماهت السيادة الوطنية مع حرية الدولة من الإملاءات الاستعمارية لدول أخرى.

ترسخ هذا الفهم في القانون الدولي عبر حق تقرير المصير الذي أقر به ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، وكان بروزه في السياسة الدولية يعود إلى العام الأخير في الحرب العالمية الأولى، عندما ضَمَنه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في نقاطه الأربع عشرة في خطاب أمام الكونغرس وطالب بتطبيقه على البلدان التي خرجت من السيطرة العثمانية التي كان العراق أحدها.

اما الفهم البراغماتي للسيادة، فهو يشدد على الكرامة الإنسانية للمواطن عبر تلبية احتياجاته الأساسية المشروعة وتمتعه بحقوقه القانونية والدستورية في بلد تعمل مؤسساته بشكل متماسك وتؤدي التزاماتها نحو المجتمع بمهنية ومساواة.

هذا الفهم للسيادة الذي يؤكد على رصانة سلوك الدولة إزاء مواطنيها يربط تحقق السيادة الوطنية الخارجية بالتماسك الداخلي للدولة وتعبيرها الصادق عن طموحات المجتمع، بمعنى أن الدولة الرصينة والمتماسكة والمرتبطة عضوياً بمجتمعها هي وحدها القادرة على تحقيق السيادة الوطنية الخارجية وفرضها كواقع حال في تعاملها مع الدول الأخرى القوية.

لا قيمة لسيادة وطنية خارجية في دولة مفككة داخلياً عاجزة عن تلبية التزاماتها الأساسية إزاء مواطنيها الذين يعانون في ظلها من شتى الانتهاكات المؤسساتية لحقوقهم والحرمانات الاقتصادية والخدمية والاجتماعية التي تقوض قيمتهم الإنسانية كبشر والقانونية كمواطنين.

عراقياً، ساد الفهم الأيديولوجي للسيادة منذ السنوات الأولى لتشكيل الدولة العراقية في العشرينات وخضوعها للانتداب البريطاني بقرار دولي، إذ انقسم المجتمع في حينه بين أغلبية كانت تعارض أصلاً القبول بالانتداب البريطاني، وتحولت إلى معارضته والمطالبة بإنهائه بعد اضطرار الدولة العراقية الوليدة لتوقيع الاتفاقية المتعلقة به في 1922 وأقلية كانت ترى وجود الانتداب واستمراره ضرورياً لبناء الدولة الناشئة وترسيخ مؤسساتها.

لم تكن كتب التاريخ العراقي ولا الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم البلد منصفة بحق هذه الأقلية فلم تشرح موقفها بموضوعية واختزلتها باتهامات العمالة للاحتلال والأجنبي لتساهم عبر هذا الاختزال بتكريس الفهم الأيديولوجي على أنه الفهم الوطني الصحيح والوحيد للسيادة.

وبعد قرن تقريباً من تلك اللحظة في تجربة الدولة العراقية، تكرر ذات الفهم الأحادي للسيادة إذ كان حاضراً بشدة في خطاب القوى المسلحة التي رفعت السلاح ضد القوات الأميركية بعد إسقاط الأخيرة نظام صدام حسين، خصوصاً في ظل تعريف هذه القوى لنفسها وأفعالها بالمقاومة ضد محتل أجنبي.

كانت هذه الاستعارة المتوقعة من القاموس الأيديولوجي لحركات التحرر في الخمسينات والستينات جزءاً من سعي أوسع لمنح هذه القوى نفسها شرعية شعبية وسياسية في خضم تشابك مصالح عراقي- أميركي معقد لا تنطبق على توصيفه التجارب الاستعمارية التقليدية التي نشأ في ظلها مفهوم المقاومة.

لكن إغراء خطاب "المقاومة" كان شديداً عراقياً إذ تبنته حتى القوى السياسية التي في الحكم، المتحالفة مع أميركا والمحتمية بقواتها لتطلق على مسعاها إخراج هذه القوات "المقاومة السلمية" برغم ما ينطوي عليه هذا المصطلح من تناقض واضح.

حرص الساسة العراقيين الحاكمين على صياغة علاقتهم بأميركا أمام الرأي العام العراقي على أساس مفردات قاموس التحرير الوطني الغني بتبنيه التبجيلي لأفعال المقاومة التي تفضى إلى تحقيق السيادة الوطنية.

من هنا كان حرص رئيس الوزراء العراقي السابق، السيد نوري المالكي، على التفاخر بنجاحه في إخراج القوات الأميركية في نهاية عام 2011 ليعلن رسمياً يوم خروجها، 31 ديسمبر، عيداً للسيادة الوطنية وعطلة رسمية تستحق الاحتفاء السنوي بها.

لكن تجربة خروج القوات الأميركية هذه وما تلاها من أحداث كانت أيضاً كاشفة عن الصواب الكامن في الفهم البراغماتي للسيادة الذي تبنته أقلية سياسية وإعلامية في عام 2011 ضد ما اعتبرته هذه الأقلية خروجاً مبكراً للقوات الأميركية مضراً بمصالح البلد قبل استكماله بناء مؤسساته بشكل صحيح.

"تحرر" السيد المالكي (وليس البلد) من الوجود العسكري الأميركي الكابح لطموحاته الشخصية، أطلق يد الرجل لتحويل هذه الطموحات إلى وقائع، فكان تفرده بالقرار السياسي بالنزوع الطائفي المحرك للكثير من قراراته وتهميشه للمؤسسات سعياً لتشكيل دكتاتورية جديدة استهدفت خصومه السياسيين والشعبيين واستعانت بموارد الدولة لشراء الولاءات على حساب الكفاءات.

كانت النتيجة فاجعةً وعلنيةً وصادمةً في سرعتها، فبعد عامين ونصف تقريباً من احتفاء الرجل المبالغ فيه بالسيادة وتحقيقه المفترض لها، كانت هذه السيادة تنهار سريعاً في يونيو 2014 عندما انهار الجيش العراقي في الموصل وسيطر تنظيم داعش على ثلث البلد في غضون أيام وسط ذهول عراقي وإقليمي ودولي واسع.

احتاجت استعادة السيادة هذه المرة دعوة القوات الأميركية، وقوات من دول أخرى، إلى المجيء إلى العراق من أجل المساعدة في قتال تنظيم داعش وإعادة بناء المؤسسة العسكرية العراقية.

في خضم تصاعد جدل السيادة الحالي بين براغماتية تحاجج بأن تماسك الدولة الداخلي واحتكارها السلاح وصناعة القرار والخطاب الرسمي يمثل المعنى الحقيقي للسيادة وآخر أيديولوجي يختزل معنى السيادة بإخراج القوات الأميركية من البلد، ثمة حاجة ماسة لإبعاد هذا الجدل عن الشعارات الأيديولوجية والاندفاعات العاطفية المعتادة لصالح نقاش جاد ومنصف، نادر عادةً، يقوده العقل لتحديد مصالح البلد الحقيقية.

في مثل هذا النقاش العاقل المفترض، ينبغي أن يثار التقويض الإيراني لسلطة الدولة العراقية من خلال أذرع عسكرية وسياسية موالية لإيران على حساب المصالح الوطنية العراقية لأن مثل هذا التقويض يمثل تهديداً منهجياً ومستمراً للسيادة العراقية، يتضاءل إلى جانبه الخرق الأميركي المفرد للسيادة من خلال الغارة التي استهدفت سليماني والمهندس.