أشار طه حسين مرة إلى أن واحدة من أخطر علامات تآكل البلدان، ثم الانتهاء بها إلى الانهيار، هي هجرة شبابها!.

أكثر البلدان العربية اليوم - باستثناء بلدان الخليج، وبلد أو اثنين، هنا أو هناك - لا يحلم معظم شبابها المحبط والمقهور بالرحيل فحسب، بل يخططون لذلك ويتحينون له الفرصة، وبتذكرة واحدة، للمغادرة فقط، منهم من ينجح، ومنهم من تنتهي به المحاولات إلى الاستسلام لواقعه الصعب وحياته المهددة، تحت وطأة القمع والتغييب، وفقدان العيش الكريم، وحصار الحريات الشخصية، وخنق مساحات الرأي والتعبير والمشاركة، إلى قوائم طويلة من الحقوق المضاعة!.

امسح معظم هذه الخرائط طولاً وعرضاً، ستجد القهر والبطالة والفراغ وشح الدخل والحاجة، وأزمات السكن، وأعباء الأيام والغيظ، هي فقط ما يملأ الصدور والبيوت، وبالطبع فإن المسؤولية، كل المسؤولية، تقع على عاتق السلطات وسياساتها، وسلوكها المتجبر والمتعالي على شعوبها، وكيف تعمل أجهزتها المنخورة بالفساد والمحسوبيات والظلم الفاقع!.

ولا حاجة للعودة للوراء لقرون، أو استقصاء ما حدث ويحدث في عالمنا العربي الممتد، هاتان قصتان قريبتان، على سبيل المثال، وقعتا في أقل من عشر سنوات، بلدان مليئان بالموارد الطبيعية والبشرية، والأهمية الجغرافية، مثل موريتانيا والسودان، لكنهما يعانيان الفقر والضيق والنزاعات، وما شئت من تأخر جودة الحياة والتعليم والرعاية الصحية والتنمية.. إلخ!.

ماذا فعلت السلطتان هناك؟ في موريتانيا تتحرك الدولة كاملة لأجل مقالة واحدة، كتبها محمد ولد الشيخ امخيطير، عاد وتراجع عنها!.

لقد انتفض القضاء وأجهزة الأمن والإعلام، مع سيل من المؤتمرات والفعاليات المصاحبة، التي حقنت الشارع وتعمدت حشده وزادت هياجه، فبدلاً من أن يخرج المواطنون للاحتجاج على الأوضاع المعيشية والتنمية، كانت الآلاف المؤلفة قد احتشدت في مظاهرات غاضبة، في نواكشوط، نهاية يناير ٢٠١٣ لتصرخ بكامل جنونها، بهتافات مدوية، تطالب بعنق ولد امخيطير!.

نعم كل هذا من أجل مقالة، والمحكمة أجلت النطق بالحكم مراراً، منذ اعتقال الشاب، وفي القصة كلها عجائب لا تحصى!.

أما السودان، سلة الغذاء وأرض النيل والذهب، كما هي أرض الفاقة والانقسامات وتدهور المعيشة أيضاً، وللأسف أيضاً، فقد هجمت شرطة الخرطوم عام 2017 على مرسم الفنانة التشكيلية الشابة، إيثار عبدالعزيز، وهدمته على رأس حلمها وألوانها، فطحنت عناءها لسبع سنين، وأكثر من مائتي لوحة!.

لقد جرف الطغيان والتخلف، كل هذا في غمضة عين، لتغرق الفتاة في نوبة بكاء وحزن بالغتين حينها!.

مرة أخرى، باستثناء العيش الكريم في بلدان الخليج، لاسيما مع تقدمها المبهج في سن قوانين التعايش، وصيانة الحقوق، هل تعرفون لماذا يحلم الشباب العربي بالهجرة؟ لماذا يصبح الاغتراب والمنافي أمنيات وطموحاً؟ ألا تذكركم قصتا ولد الشيخ وإيثار بقصص أخرى؟ حكايا وحكايا كثيرة ومخجلة في مفازات الجحيم، ولينقذ الله هذا المشرق من حاضره البئيس، ومستقبله المجهول!.