مساء الأحد 21 مايو 2012 أصابني صداع حاد نتيجة هتافات أنصار الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي، عقب الإعلان عن حصوله على المرتبة الثانية في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية.

كانت قاعة العروض في مقر حزبه (الاتحاد من أجل حركة شعبية) تهتز بصفير المناصرين كلما شاهدوا عبر شاشتي تلفزيون كبيرتين المرشحين المنافسين يدلون تباعا بتصريحاتهم عن نتيجة الاقتراع.

وبعد طول انتظار أطل ساركوزي بقامته القصيرة وسط القاعة، ليخاطب الآلاف من أنصاره بعبارة "مواطني الأعزاء"، كررها أكثر من مرة في حشد حزبي بالدرجة الأولى.

عادت بي الذاكرة وأنا أتابع هذا المشهد إلى الثاني من مارس عام 2011. كنت أحضر تجمعا مماثلا، تخلله حماس وهتافات تأييد لا تقل عما فعله أنصار ساركوزي.

الحاضرون هناك أتوا للتعبير عن التأييد لزعيم كان مركزه معرّضا لتحد غير مسبوق، تماما مثلما يساور القلق ساركوزي حاليا حيال البقاء في قصر الإليزيه.

وصل ساركوزي إلى مقر التجمع في سيارة محاطة بموكب من الدراجات النارية، كما أن الزعيم الآخر وصل قبله بعام ونيف على متن سيارة صغيرة محاطا بحشد من الحرس.

أنصار ساركوزي يستعدون لمعركة انتخابية حاسمة إما تمدد أو تضع حدا للعمر السياسي لهذا الرئيس الذي جاء أبواه قبل ستة عقود تقريبا إلى فرنسا طالبين اللجوء بعدما عز الاستقرار في بلدهم الأصلي، المجر.

وبالمقابل كان أنصار الرئيس الآخر يتأهبون لخوض معركة أثبتت الأيام أنها كانت بدورها حاسمة في تاريخ نظامه السياسي الذي بدأ حينما هجر والديه من أعماق الصحراء إلى إحدى مدن البحر المتوسط.

عند هذه النقطة تتفرق السبل السياسية بكل من ساركوزي والزعيم الآخر.

توجه ساركوزي بالشكر لمواطنيه على مشاركتهم الفاعلة في الاقتراع ووعدهم بأن يعمل ما في وسعه ليجعل "فرنسا قوية" بكل أبنائها.

أما تجمع عام 2011 فكان بمناسبة مرور 34 عاما على تسليم الزعيم ومجموعة من رفاقه "السلطة للشعب"، إلا أن الزعيم فهم من ذلك أنه هو الشعب، وأن ما يصدر عنه هو إرادة الشعب.

يتعلق الأمر بالعقيد الليبي معمر القذافي. وقد كنا نحن مجموعة من مراسلي الصحافة الدولية مدعوين في إحدى الخيم الضخمة المنصوبة على مقربة من معسكره الحصين، باب العزيزية، بطرابلس الغرب.

أنصار القذافي في التجمع كانوا يهتفون بشعارات محرضة على الموت والقتل والقصاص من "الجرذان". كان ذلك ينقل مباشرة على شاشة "قناة الجماهيرية" ، بينما كان الرصاص والقذائف تنهمر على مواطنين ليبيين مدينة الزاوية التي تبعد عن طرابلس أقل من خمسين كيلومترا، وأخرى في بنغازي عاصمة الشرق الليبي.

لم يتحدث القذافي عن برنامج سياسي محدد له، بل تفرغ للوعيد والتهديد بالويل والثبور لمن سولت لهم أنفسهم شق عصا الطاعة على نظامه "الجماهيري".

سواء فاز ساركوزي بولاية ثانية أم لم يفز، فإنك لن تجد من يصف أنصاره بالشبيحة أو البلطجية أو الكتائب، لأن ولاء الجميع طوعا أو كرها هو للجمهورية، والخضوع عندهم للقانون، والاحتكام عندهم لما يخرج من صناديق الاقتراع التي لا يرقى الشك إلى مدى شفافيتها.

ما إن أتم القذافي خطابه حتى كانت جحافل من جيشه تشق طريقها إلى المدن والبلدات التي تمرد أهلها أو بعض منهم على حكم زعيم لم ينتخبوه أبدا.

وبالمناسبة لم يكن ساركوزي ببعيد عن ذلك الصراع، فقد كان بدوره يتحرك لإقناع الأمم المتحدة بالتدخل عسكريا لمنع القذافي وجنوده من تنفيذ وعيده ضد أفراد شعبه.

انتهت الحرب في ليبيا ورحل القذافي إلى الأبد ليدفن في مجاهل الصحراء التي جاء منها.

أما ساركوزي فإنه حتى في حال خسر الاقتراع، فإنه سيبقى له وضع "رئيس سابق"، حقوقه المعنوية مكفولة، ولن يترك جثمانه بعد الوفاة عرضة للتعفن أياما أمام الناظرين، أما من تسلل إلى الحكم غصبا في ظلمة إحدى ليالي الشتاء الباردة، فإنه قد يجد الموت غير الرحيم يتسلل إليه، ولن تحميه ماسورة مياه السيول إن احتمى بها.

وذلك هو الفرق بين من يستند إلى شعبه للبقاء في الحكم عبر صناديق الاقتراع، ومن يستند إلى صناديق الذخيرة ليبقى في الحكم ضد إرادة الشعب.