يتذكر ألبير، مغربي يهودي مقيم في باريس، منزل العائلة في الدار البيضاء، حيث يجتمع كل أفراد أسرته على طبق الكسكس المغربي الشهير خاصة عندما يكون من يد والدته.

ويقول ألبير لموقع "سكاي نيوز عربية": "يعد هذا الطبق من أطباقي المفضلة التي أتناولها من يد أمي. كلما سنحت لي الفرصة أذهب لتناوله في أحد المطاعم المغربية هنا في باريس".

وطبق الكسكس ليس إلا جزءا بسيطا من هوية مغربية يحملها اليهود المغاربة في ذاكرتهم وقلوبهم عن بلدهم في المهجر.

ويحكي ألان، صحفي متقاعد في باريس، مازحا "أتمتع بمزاج مغربي متقلب يميزني عن أصدقائي اليهود الأوربيين، فأنا كالبحر هادئ في معظم حالاتي ودون سابق إنذار يمكن أن أنفعل".

فابن حي الملاح بمدينة سلا المغربية، لا تغيب عن ذاكرته صور التعايش والود التي جمعت أبيه بأصدقائه المسلمين، "ترعرعت في حي الملاح، أبي كان تاجرا، كنا نتبادل الزيارات أسبوعيا، ويوم السبت المقدس، كان يتولى المسلمون العاملون في الأفران التقليدية الشعبية توصيل الخبز والأكل المطبوخ إلى منازلنا، كما أن الأعياد الوطنية المغربية كانت مناسبة تجمعنا للاحتفال سويا".

ألبير، مغربي يهودي مقيم في باريس

أما هنري، الذي عاش في قلب مدينة الدار البيضاء، فيروي لموقع "سكاي نيوز عربية" مبتسما، "يجتاحني حنين كبير للمغرب، خاصة تلك الجلسات حيث تعلو صيحات الضحك مع أصدقائي المسلمين المقربين من أيام الدراسة، وتلك الأعراس المغربية التي كنت أحضر بدعوة وبدونها".

ويضيف:"يكفي أن أكون صديقا لأحد أفراد عائلتي العرسان وأصبح مرحبا بي، وقد ورثت عنهم خصال الكرم والجود والضيافة".

وتابع: "هنا في باريس، تجمعني الصدفة مع سائقي سيارة أجرة مغاربة أمازيغ، أفاجئهم دائما بلهجتي الأمازيغية الممتازة، وأحيانا نلجأ إلى طريق أطول لنربح وقتا أكبر في تقاسم أطراف الحديث عن المغرب وأهله، كونت صداقات عدة عبر هذه الصدف التي يطبعها حب المغرب والحنين إليه".

الطعام المغربي لا يفارق سفرة اليهود المغاربة

خصوصية تاريخية

ويصعب اختزال خصوصيات اليهودية المغربية تاريخيا في بضع كلمات، بحسب  المؤرخ والباحث في الثقافة اليهودية، محمد كنبيب، الذي يقول لموقع "سكاي نيوز عربية" إن ذلك يرقى إلى تلخيص تاريخ وحضارة وثقافة المغرب التي كان اليهود جزءًا منها عبر قرون.

لكن كنبيب يمكن أن يحدد بعض الخصائص، ومنها على وجه التحديد تواجدهم في البلاد لأكثر من ألفي عام، إذ كانوا يتوزعون في كل المدن والأرياف المغربية بدون استثناء.

وكان تعداد اليهود المغاربة في عام 1948 حوالي 250 ألف نسمة، فشكلوا بذلك أول جالية يهودية في العالم العربي -أكثر من تلك الموجودة في الجزائر وتونس مجتمعين.

ولم يشكل اليهود كتلة عرقية ثقافية متجانسة، فحين استقر أول اليهود في المغرب في القرن الخامس قبل العصر المسيحي، أطلقوا على أنفسهم اسم طوشابيم (أوالبلديين ، السكان المحليين)، ولجأ إخوانهم في الدين إلى المغرب بعد ذلك بوقت طويل، تحديدا بعد طردهم من إسبانيا عام 1492 ثم من البرتغال".

أخبار ذات صلة

المغرب.. بلد "الألسن السبعة"
مسيحيو المغرب يرفعون مطالبهم "الدينية" للعثماني

وعلى مستوى المهن، انقسم اليهود المغاربة إلى فئات، منها ما كانت تعيش ظروفا صعبة، تتشكل من صغار الحرفيين والباعة المتجولين والحمالين، وفئة أخرى كانت من التجار الأغنياء الذين امتهنوا تجارة القوافل عبر الصحراء (خلال العصور الوسطى)، ثم التجارة البحرية -خاصة منذ القرن السادس عشر. كما عملت فئة أخرى في الزراعة لاختيارها العيش في الأرياف.

واليوم لم يتبق سوى حوالي 2500 يهودي في البلاد، يعيشون بشكل رئيس في الدار البيضاء وفي ثلاث أو أربع مدن كبرى، وذلك راجع بالأساس إلى النزوح الجماعي الذي حدث عامي 1948 و1967، الذي يقول المؤرخ المغربي إنه "يجب وضعه في سياقه الدولي، فقد حدثت اضطرابات سببتها الحرب العالمية الثانية والحروب الإسرائيلية العربية (1948 ، 1956 ، 1967 ، 1973)".

كما من الضروري أيضا مراعاة التحولات الاقتصادية العميقة التي ولدها النظام الاستعماري بين عامي 1912 و1956 مما أدى إلى زيادة إفقار الفئات الشعبية من اليهود والمسلمين.

ويبقى البحث عن ظروف معيشية أفضل هو السبب الأساسي في هجرة أعداد كبيرة من اليهود في الستينيات إلى أوروبا الغربية وكندا على وجه الخصوص.

الممارسات الدينية

ويشير كنبيب إلى أنه "ما يجب التأكيد عليه أولاً هو أن اليهود والمسلمين موحدين، يؤمنون بإله واحد ويشتركون على سبيل المثال في الختان والصوم وما إلى ذلك".

ويشترك اليهود والمسلمون المغاربة في عادة زيارة أضرحة الأولياء، التي يعتبرها كنبيب "مخالفة للعقيدة اليهودية والإسلام".

إلا أن جزءًا من الدين الشعبي والاعتقاد بأن القديسين لديهم قوى خارقة للطبيعة (البركة) ويمكنهم التوسط إلى الله يدفعهم بحسب قوله دائما للتبرك بهم خلال المواسم عند المسلمين والهيلولة عند اليهود. وقد استمرت هذه الممارسات والطقوس حتى اليوم.

ويشكل ضريح عمران بن ديوان ببلدة آسجن، بالقرب من مدينة وزان أحد أشهر الأضرحة ورموز التسامح الديني التي يزورها اليهود المغاربة القادمين من جميع أنحاء العالم.

متحف التراث الثقافي اليهودي بالدار البيضاء

ومن جانب آخر، يستطرد كنبيب، يحرس المسلمون الأضرحة اليهودية،  كما تم إجراء ترميمات للمعابد، لا سيما في فاس، الصويرة ومراكش.

لهجة ومطبخ

وتؤكد الصحفية والباحثة في الديانة اليهودية، غزلان الطيبي، أن اليهود كانوا ولايزالون يتحدثون اللهجات المغربية، ما عدا البعض من المغوراشيم وهم يهود الأندلس الذين كانوا يتحدثون اللاتينية.

وقد تشبع المطبخ المغربي ببعض الأطباق اليهودية، رغم بعض الاختلاف الحاصل من ناحية الحلال والحرام، عند اليهود عموما.

وتقول الطيبي" فيما يتعلق بالأسماك، فلابد أن يكون لديها زعانف وقشور على الجسم حتى يحل أكلها وهذا يعني أن الشريعة اليهودية تحرم فواكه البحر، كما أنها تحرم أكل الأرنب والجمل. وهناك شرطين أساسيين للحيوانات التي يحل لليهودي تناول لحومها، أولها هي أن تكون من المجترات، وأن تكون حوافرها مشقوقة".

ذاكرة وتاريخ محفوظ

ويعتبر متحف التراث الثقافي اليهودي بالدار البيضاء، المتحف الوحيد في العالم الذي يهتم بالثقافة اليهودية، والمتحف الوحيد في العالم العربي الذي يهتم بالمكون العبري.

وتتحدث زهور رحيحيل، محافظة المتحف المسلمة الديانة لموقع "سكاي نيوز عربية قائلة": "يهدف متحف التراث الثقافي اليهودي المغربي الذي جرى تأسيسه سنة 1997 بمبادرة خاصة من مجلس الجماعات اليهودية المغربية، إلى الحفاظ على هذا التراث وصيانته وتعريف المغاربة المسلمين على تاريخ هذه الحضارة، كما أن المتحف يجذب مجموعة من اليهود المغاربة الذين يقطنون في الخارج إلى زيارته لكونه يضم عددا كبيرا من المنحوتات والمنتوجات العبرية التي لا تتجزأ عن الثقافة المغربية".

صور من داخل المتحف

ويلعب المتحف دورا توعويا وتعليميا، إذ يستقبل تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوي والجامعات، كما يتعامل مع الجمعيات والمجتمع المدني من أجل إقامة المعارض والمحاضرات واللقاءات الثقافة اليهودية المغربية، بحسب رحيحيل.

صور من داخل المتحف

حياة اليهود في الوثائقيات 

ويعتبر كمال هشكار الذي ولد بمدينة تنغير المغربية قبل انتقال الأسرة في سن ستة أشهر للعيش في فرنسا، أحد المخرجين المهتمين بالثقافة اليهودية المغربية، إذ سلط الضوء على بعض من روافدها عبر أفلامه الوثائقية.

وفي حديثه لموقعنا، يكشف سر بحثه في هذا الجانب من تاريخ المغرب، "ترعرعت في فرنسا، إلا أنني كنت مغربي الأصل والقلب، دائما حاولت الرجوع إلى جذوري بمدينة تنغير للبحث عن هويتي المغربية، وخلال هذه الرحلة اكتشفت الحضور الكبير للمكون اليهودي في حياة أجدادي وجيرانهم، فقصصهم لا تخلوا من الحنين إلى صور التعايش والعلاقة الطيبة التي جمعت بين اليهود والمسلمين في المنطقة، فقد تقاسموا نفس الأحياء وتشاركوا الحفلات والمناسبات، وعملوا معا في نفس المحلات".

وقد تغنى اليهود بالتراث الموسيقي الأمازيغي، وهذا بالضبط ما حاول هشكار نقله في أفلامه، "للتذكير بهذا الرافد المهم المنسي في حضارتنا المغربية، لأن ما تبقى من أثر لحياتهم في المدينة لا يتعدى بعض المنازل المهجورة أو بعضا من مقابرهم".

ويرى هشكار أن مهمة الأفلام الوثائقية تتمثل أساسا في تغطية الفراغ الحاصل في هذا الجانب في المقررات الدراسية مع إيصال المعلومة للشباب قليل المطالعة الذي لم تسنح له الفرصة لمعايشة اليهود.

ويعتبر فيلم "تنغير - القدس" أول فليم لهذا المخرج الفرنسي من أصل مغربي، قدمه للجمهور سنة بعد دستور 2011، الذي اعتبر أن اليهود هم أحد مكونات الهوية الوطنيةواستعرض من خلاله شهادات رصدت ملامح التعايش بين الديانتين في مدينة تنغير.

أما فيلمه الوثائقي الثاني "في عينيك أرى وطني" الذي عرض سنة 2019 ، فقد سبر أغوار التراث الموسيقي اليهودي المغربي.

يقول هشكار: "دوري أن أنفض التراب عن الذاكرة المنسية من تاريخنا وهويتنا".