في أعماق الصعيد شرع الشيخ محمود في تعداد مناقب ومثالب الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ عام 1952.

اتكأ على عصا فأسه، ثم مسح العرق عن جبينه، وأثنى ثناء بالغاً على الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والرئيس الأسبق حسني مبارك، وبشكل أقل على الرئيس الراحل أنور السادات، ثم انتقص من أداء رئيس المجلس العسكري السابق المشير حسين طنطاوي، وأخيراً استخدم كلمات نابية في حق الرئيس السابق محمد مرسي.

مواقف متنافضة

يقول الشيخ محمود إن غضبه من مرسي مرده "غلاء السماد الذي أحتاجه لحقلي بنسبة مضاعفة خلال عام واحد. كما أن أتباع جماعة الإخوان بثوا الفرقة بيننا نحن أهل الصعيد، وسعوا لإشعال الفتنة الطائفية مع إخوتنا المسيحيين".

لا يمثل كلام الشيخ محمود موقف كافة أهل الصعيد أو مصر، لكنه يعكس انقساماً حاداً في الموقف يصل أحياناً إلى داخل الأسرة الواحدة؛ إذ تجد الشاب يدافع باستماتة عن "شرعية" مرسي وحقه الديمقراطي في العودة للحكم، وتجد أخاه ذاهباً إلى أقصى الحدود في إباحة قتل "الإرهابيين الذين يقفون في وجه ثورة الثلاثين من يونيو".

حين شرع شباب مصر في الخروج إلى الشارع في 25 يناير 2011 كان القاسم المشترك بينهم هو إزاحة مبارك والحيلولة دون استمرار نظامه، لكن أولئك الشباب لم تكن لديهم قيادة مركزية، ولا رمز يُلتفُّ حوله، ولا مشروع مجتمعي بديل. كان لابد من انتظار الانتخابات لعلها ترسي أسس دولة المؤسسات الديمقراطية، وتفرز نخباً سياسية تعكس تناقضات المجتمع.

ضعف الأحزاب السياسية الموجودة آنذاك، وتناحرها من جهة، وحسن تنظيم الإخوان المسلمين وتعاطف فئة كبيرة معهم في "مظلوميتهم" التي استمرت لعقود، وخوف المصريين عموماً من عودة "الفلول" عبر ثقوب صناديق الاقتراع، أهلت الإسلاميين لكسب غالبية الأصوات. فكان فوز مرسي، وحيازة أتباعه للغالبية البرلمانية.

لكن النضال من أجل الحكم شيء، وممارسته شيء آخر مختلف.

منذ اليوم الأول لدخول مرسي القصر الجمهوري كان واضحاً أن مهمته لن تكون يسيرة، فأمامه توجد معارضة تمرست على التعامل الذكي مع الإعلامي الأجنبي، ولها نصيب في ملكية الإعلام المصري، فضلاً عن علاقات بعضها مع الغرب والجوار العربي غير المطمئن لوصول الإخوان إلى السلطة.

بالمقابل، يقول الكثير من المصريين من مختلف الشرائح، عجز مرسي عن فهم أن مصر ليست بلاد مسلمين فحسب، وأنها خارجة للتو من ثورة على نظام "استبدادي"، وأن عيون العالم تراقب الصغيرة والكبيرة مما يجري في هذا القطر الذي يمثل مركز الثقل في البلاد العربية.

تردي الوضع الاقتصادي

كانت مصر تجني سنويا حوالي 18 مليار دولار من عائدات السياحة. وكان هذا القطاع يشغل الملايين من الأيدي والأدمغة العاملة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. لكن منذ مطلع عام 2011 تراجع هذا الدخل بشكل كبير، لخوف السياح الأجانب على سلامتهم، وكذلك للرسائل "غير المطمئنة" التي بعثت بها قيادات الإخوان.

تعطلت الحياة بشكل يكاد يكون تاماً في مدينة الأقصر بالصعيد، وزادت حدة غضب السكان من ضياع فرص عملهم.

ومما زاد الطين بلة، يقول أحد المستثمرين في القطاع السياحي في المدينة، هو إصرار مرسي على تعيين عادل الخياط لشغل منصب محافظ الأقصر. عادل الخياط هذا متهم بالتورط في هجوم مسلح على سياح في الأقصر عام 1997، وهو يرى أن الآثار الفرعونية عبارة عن أصنام يجب التخلص منها.

مهما ساق المرء من مبررات لتسويغ قرار كهذا، فإنه لن يستطيع إقناع تجار السوق السياحي وسط الأقصر، بعد الكساد الذي حل بسلعهم، ولا أصحاب العربات التي تجرها الخيل، الذين يتوسلون أي شخص الركوب والتجول ما بين معبدي الكرنك والأقصر مقابل أقل من دولار.

تمكين الإخوان

يرجع معارضو مرسي الكثير من قرارته إلى سياسة "التمكين" لأبناء الجماعة الإسلامية، لكي تتسنى الهيمنة على مفاصل الدولة وبالتالي السيطرة عليها.

لكن الإخوان يردون بأن المعسكر العلماني والليبرالي هو الذي ظل ينتقد كل القرارات، الصائب منها والمخطئ.

ويقول أنصار مرسي إن مصر لم تعش حرية تعبير بالقدر الذي عاشته في فترته، حيث كان رئيس الجمهورية يشكل مادة دسمة للسخرية التلفزيونية دون تعرض أصحاب تلك البرامج للاعتقال أو التضييق.

أول ما عمدت إليه السلطات الحالية منذ الثالث من يوليو هو إغلاق محطات تلفزيونية مقربة من الإخوان والتيارات الإسلامية الأخرى، بدعوى أنها تحض على الكراهية والعنف.

الآن وقد انتهت صفحة مرسي ودخل الجيش والأمن على الخط، واعتُقِـلت جل قيادات الإخوان، لم بعد التحسر على الماضي يجدي نفعاً.

واقع جديد

يجد ثوار يناير أنفسهم حالياً أمام واقع جديد للعسكر فيه دور كبير، ولبعض رموز نظام مبارك آثار يد خفية، ولخطر تحول بعض الإخوان من العمل في إطار تنظيم سياسي علني، إلى النشاط السري الذي قد يدفع فئة منهم للتحالف مع جماعات ظلت ترى أن العنف هو السبيل لتغيير الحكم وضبط المجتمع.

الكثير من السياسيين تنفسوا الصعداء بعد إبعاد الإخوان، وآخرون يسعون لمنع أي نشاط أو مشاركة لأحزاب مبنية على أساس ديني، وفئة ثالثة تخشى أن تكون خُدعت بعد مظاهرات 30 يونيو.

أما الشيخ محمود فهو يعود كل صباح إلى حقله بالصعيد، منتهى أمله أن تهبط أسعار السماد، وأن تكف البنادق عن إطلاق النار على الصدور من بين الأغصان في حقول الدرة.