شكلت الأزمة السورية اختبارا حقيقيا لسياسات تركيا الخارجية وفلسفة وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، صاحب نظرية تصغير المشاكل مع الجيران والسعي للوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى في المنطقة.

وكشفت الأزمة نقاط الضعف والقوة الحقيقية لدى أنقرة في التأثير على صياغة مستقبل المنطقة، ودفعتها لإعادة النظر في العديد من سياساتها وعلاقاتها الدولية والإقليمية.

ولم تفاجأ تركيا بوصول شرارة ما عرف بـ"الربيع العربي" إلى جارتها الجنوبية، إذ نبه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان صديقه - سابقا - الرئيس السوري بشار الأسد في فبراير 2011 إلى ضرورة اتخاذ خطوات إصلاحية استباقية تصد رياح التغيير العربي التي تعصف بالمنطقة.

ومع بداية إرهاصات الاحتجاجات، ظلت تركيا محافظة على ما قالت إنه "إيمان عميق بقدرة الأسد على الخروج من الأزمة بقوة من خلال مشروع إصلاحي يجعل سوريا نموذجا للديمقراطية في المنطقة"، حتى بدا وكأن أنقرة حريصة على بقاء نظام الرئيس السوري.

بل إن الاقتراحات التركية التي حملها داود أوغلو في بداية الأزمة إلى دمشق، عبرت عن قبول أنقرة بسقف منخفض للإصلاحات في سوريا، ينتقل بها إلى وضع يشبه الوضع التركي في تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت آليات العمل الديمقراطي فاعلة - البرلمان والحكومة والانتخابات النزيهة - لكن ضمن وصاية عسكرية على القضايا الأمنية والسياسة الخارجية.

لكن الشك تسلل مبكرا على خط أنقرة - دمشق، لعدة أسباب من بينها قناعة دمشق - أو تظاهرها بالقناعة - بأن ما يحدث على أرضها ليس "ثورة شعبية"، إنما "مؤامرة خارجية يقودها تنظيم الإخوان المسلمين" القريب من الحكومة التركية ذات الجذور الإسلامية.

كذلك استخدام أردوغان للملف السوري في حملته الدعائية للانتخابات التشريعية في يونيو الماضي، التي تخللها تصريحات قوية لأردوغان انتقد فيها الأسد وعائلته.

كما أن الخلاف بين أنقرة و دمشق حول استضافة تركيا للمعارضة السورية أجج نار عدم الثقة بينهما، فبينما كانت تركيا تراهن على احتضان المعارضة وترويضها من أجل حوار لاحق بينها وبين النظام السوري، اعتبرت دمشق هذه الخطوة "إعلان حرب سياسية".

وخلال الأشهر الأولى للثورة بدا أن تركيا هي من يقود التحرك الدولي تجاه النظام السوري، وكأنها المسؤول الأول عن هذا الملف، لدرجة تسريب خطط عن نية تركيا إنشاء مناطق عازلة وفرض حظر جوي.

ومن جانبها لم تستعجل أنقرة نفي ذلك معتقدة أن هذه الأنباء قد تردع الأسد عن المضي في حله الأمني.

وحاولت أنقرة حتى أغسطس الماضي الحفاظ على "شعرة معاوية" مع دمشق، وهي تدرك في الوقت نفسه أن الولايات المتحدة لم تتخذ قرارا حاسما بشأن موقفها من بقاء النظام السوري أو رحيله، فتقدم داود أوغلو بخطة للحل في أغسطس عرضها خلال اجتماع مع الأسد.

وبدأ تنفيذ المخطط بسحب المدرعات العسكرية من حماة والسماح لوفد إعلامي تركي بالتجوال في المدينة، لكن سرعان ما انهار الاتفاق بعد ملاحقة المخابرات السورية للصحفيين أينما ذهبوا، ودك الجيش السوري حمص بعد يومين، ما دفع أنقرة للإعلان عن وقف جميع الاتصالات مع دمشق وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على النظام السوري، و القول إن الرئيس الأسد "لا يفي بوعوده التي يقطعها خلال اجتماعاته مع المسؤولين".

بدا بعد ذلك لأنقرة أن عليها أن تتراجع قليلا من أجل افساح المجال لعمل عربي بعد دخول جامعة الدول العربية على الخط، وعملت تركيا على دعم الخطط العربية ودعم تدويل الأزمة السورية بعد فشل تلك الحلول.

واكتشفت أنقرة خلال هذه التجربة وجود حساسيات لدى بعض الدول العربية - مثل مصر و الجزائر والعراق - من دور تركي في أزمة عربية بحته، كما اكتشفت أن علاقاتها مع إيران باتت مهددة وبوضوح بسبب الأزمة السورية، في المقابل تعزز التعاون التركي الخليجي بشكل غير مسبوق.

وفي الذكرى الأولى للاحتجاجات السورية، أعلنت تركيا أنها ستحتضن النسخة الثانية من مؤتمر "أصدقاء سوريا" في الثاني من أبريل المقبل في اسطنبول، من أجل طرح مشروع فتح ممرات إنسانية بدعم عسكري، وإقناع واشنطن ودول أوروبية وعربية بالمشاركة حتى لا تتحول هذه المبادرة إلى سجال عسكري ثنائي بين تركيا سوريا.

وخلال عام الأزمة السورية اكتشفت تركيا ضعف سياسة "القوى الناعمة" التي كانت تعتمد عليها في المنطقة مقابل القوة العسكرية المباشرة على الأرض.

وتحولت سياسة تركيا القائمة على الحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى والتكتلات الإقليمية، إلى أخذ لون معين والاقتراب أكثر إلى معسكر بعينه، بعد أن بات من الصعب بعد الأزمة السورية تغطية اختلاف المصالح مع طهران بورقة التصريحات الدبلوماسية.