في فترة ما بعد هزيمة يونيو حزيران الكبرى، تحولت المقاومة الفلسطينية إلى جدار البركة، تتعلق بأستاره على الجهتين زعامات تعوزها الشعبية، وشعوب تنقب في أحلامها عن زعيم. لكن النتيجة كانت كارثة. بدأت بأيلول الأسود في عمان1970 ، ولم تنته بالحرب اللبنانية في نيسان 1975.

الآن ورث الإسلام السياسي موقع الجدار، وورثت قطر عرش الزعامة الطامحة إلى شعبية. فهل ستتغير النتيجة؟

الوضع في قطر جدير بالنظر الموضوعي. كان مغريا للقيادة لكي تستعير جدار البركة، الشعب عندها أصغر، والقرار السيادي أسهل. ومغريا لجدار البركة لكي يتحرك إلى هناك، فالثروة أكبر. هذه الحقائق جرت الدولة الصغيرة الآمنة الرغدة إلى موقع حرج.

أبرز مظاهر هذا الموقع الحرج ما نراه من "تنصلات" القرار في قطر، وتراجعات القيادة عن تعهداتها ومواثيقها الموقعة خلال السنوات الماضية. وليس بعيدا ما حدث قبل أيام. إعلان عن اتصال الأمير تميم بن حمد بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. بعده بوقت قصير يخرج الإعلام القطري ويتنصل من الفعل السياسي، فكأن ”الدولة الأخرى“ تبلغ الأمير رأيها. والدولة الأخرى هنا هي دولة تحالف ”الإخوان الممانعة“ في إمبراطورية الإعلام التي يبدو أن امتداداتها داخل السلطة تتحرك في إطار يتحدى السلطة الرسمية نفسها.

ذلك أن قطر لم تتعلم الدرس. أن التنظيم حين يقدم خدماته إلى الدولة لا يبقى في إطار القمقم الذي ظنت أنها قادرة على إبقائه فيه، وأنه لا يقول شبيك لبيك إلى الأبد، وبلا ثمن.

قطر، وإن أرادت، لن تستطيع أن تتخذ موقفا خارج إطار ما يريده الإخوان. قطر بنت رؤيتها وكيانها في نظر جيل كامل على شعبية حلف ”الممانعة الإخوانية“، وتحالفاته مع رواسب الثورة الفلسطينية.

هو الذي شكل مناهج التعليم، وأشرف عليها. وبنى الكوادر ونماها. وأطلق الشعارات الإعلامية والسياسية ورعاها. ووصل من القوة والتداخل في الدولة إلى حد أنه أعلن قبل سنة الألفين أنه لم يعد بحاجة إلى وجود التنظيم داخل ”الحالة القطرية“. هذه طريقة أخرى لكي يقول إنه حقق التمكين أو كاد. وهو أمر غير مستبعد في دولة تعدادها ثلث المليون، وتنظيم متمرس وصل سابقا إلى الحكم في دولة تعدادها يقترب من المئة مليون.

قطر الآن - وإن أرادت - في مفرق بين تحقيق استقلال قرارها عن هذا الحلف، وبين تبعات هذا الاستقلال. ليس هذا مفرقا سهلا. لقد نجحت الأردن في تجاوزه بصدام عسكري دام. أما لبنان فقد فشل فيه حتى الآن.

لكن قطر لن تستطيع أن تفعل ما فعله الأردن لأنها لا تملك الوسيلة.. ولن تنزلق إلى ما انزلق إليه لبنان لأن التنظيم لا يملك السياق. الأغلب أنها ستظل على هذه الحال، محاولة كسب الوقت والمراوغة. لا تملك خيارا آخر. النظام السياسي محمي بكتيبة تركية. في الكلمات الخمس السابقة تتبلور المعضلة القطرية. أي جزء من النظام السياسي محمي بهذه الكتيبة؟ مع من هذه الكتيبة وضد من؟ بأمر من تأتمر؟ أتحداك أن تجاوب على السؤال إجابة موضوعية واثقة.

لكن بقية المأساة مفتاحها الشعبية الإخوانية في الداخل والخارج. لقد صارت دولة الإخوان وامتداداتها أقوى من قطر نفسها. ولو أرادت قطر التفاوض فهي تريد التفاوض على ما يمس الإخوان، لأن قطر الدولة - في الحقيقة - لا يطلب منها أحد شيئا. لا يطلب منها أحد تنازلا. أقصى المطلوب منها كف الأذى. وهو مطلب يبدو سهلا. إلا لو أدركنا أن الأذى هو نفسه الدولة الأخرى داخل قطر. وهو الدولة الأقوى داخل قطر. هو المغامرة التي ظنت قطر أنها تملك خريطتها وأنها أمنت مسارها ذهابا وعودة. لكنها تكتشف الآن أنه - في الحقيقة - الدولة التي انبنت عليها في الجيل الحالي كلمة قطر.