وقف أحمد الفقي المهدي وسط قاعة المحكمة الجنائية الدولية ليعلن أمامها وأمام شاشات وكالات الأنباء، اعترافه بما نسب إليه من تهم تتعلق بتدمير أضرحة الأولياء بمدينة تمبكتو التاريخية في إقليم أزواد بشمال مالي، ولم يتوقف الأمر عن الاعتراف، بل تجاوزه إلى إظهار الندم عليه وطلب الصفح ممن لحقهم الضرر بسببه بصفة مباشرة أو غير مباشرة.

جاء ذلك في كلمة مكتوبة تلاها المتهم باللغة العربية في آخر جلسات المحاكمة في الثاني والعشرين من أغسطس 2016، في مقر المحكمة في مدينة لاهاي.

المحكمة الجنائية الدولية التي تعيش في عالم يموج بالجرائم والكوارث ضد الإنسان بل وضد كل أنواع الحياة، لم تجد مع ذلك ما تثبت به وجودها وأهميتها وشرعيتها في تلك المنطقة المظلمة من العالم إلا من خلال هذا الشخص، متجاهلة كل الدمار والقتل والإحراق والتدمير الذي طال الإنسان في المنطقة، وكأن الإنسانية لم يبق منها إلا بضع قباب بنيت على أضرحة غارقة في صحراء، هجر منها أهلها وقتلوا وأذلوا على يدي إرهاب كرّس على رؤوسهم منذ خمسة عقود مضت، ولا يزال مرتكبوه طليقين.

ومع ذلك لا بد من القول إنه منذ ظهور حركات التطرف والغلو وانتشارها في أكثر دول العالم فقرا وتخلفا، وهذه الجماعات تتبنى الهدم والقتل سياسة معلنة لها تزيد عنفا وتطرفا وقسوة مع الوقت.

إن المتابع لأخبار هذه الجماعات لا يجدها تفاخر بشيء أو تحرص على نشره أو بثه غير الهدم والقتل والتفجير والتفخيخ.

فلا نعلم أن هذه الجماعات نشرت يوما قوائم بمن أدخلتهم في الإسلام أو أخرى بما أنجزته على أرض الواقع لمن تزعم أنها بعثت من أجلهم، وبالتالي فإن هدم الأضرحة لم يكن خروجا على النهج ولا مفاجئا لمتابع.

يصر المتطرف على فرض توجهه بالقوة، متناسيا أن ما ترسخ فكريا في أذهان الناس عبر العصور وأصبح أمرا ثابتا بحكم التراكم والتوارث، فإنه لا مجال لتغييره بهذه الطرق العنترية، لأن زوال القبب وهدمها دون العمل وعبر عصور أيضا على توعية الناس ورفع المستوى المعرفي والثقافي وتكوين أساس صلب يمكن الركون إليه لمحاولة إحداث اختراق في المنظومة الثقافية لمجتمع ما، لن يمكن من خلق بيئة حاضنة للتغيير الذي تراه جهة ما ضروريا، والحدث أثبت ذلك، فقد أعيدت القبب وهرب عناصر القاعدة إلى الجبال، ولا تازال المدينة تتجرع كأس التخلف والتهميش دون أن يلفت واقعها المرير منذ عقود محكمة ولا عدالة مزعومة.

من الضروري التأكيد على الرفض القاطع لسلوك القاعدة وتفرعاتها وأذرعتها، ليس فيما يخص الأضرحة فقط وإن كانت أقل ممارستها سوءا وضررا بعد سفكها للدماء، ولكن في كل أنشطتها وممارساتها بشكل عام، دون الدخول في التفاصيل الدقيقة والجزئية.

مع ذلك لا بد لسؤال أن يطرح: بماذا أصبحت هذه المقابر أو الأضرحة تراثا إنسانيا تجب المحافظة عليه وحمايته من الزوال والتعدي؟

هل لأن الأضرحة في تمبكتو يشار إليها أنها أضرحة أولياء، فهل كون قبر ما لولي (حسب من يعتقد بالولاية ومتعلقاتها) يمنحه خصوصية ضد الهدم؟، إن كان هذا هو السبب فإن العالم الإسلامي اليوم كله أو جله يجب أن يضاف إلى التراث الإنساني، أو هو القدم أو جمال البناء أو فخامته أو رداءته أو أي شيء بالضبط؟

إن الاسترسال في البحث عن مبرر منطقي لإلحاق هذه الأضرحة بالتراث الإنساني دون شيء سواها في تمبكتو، لن يقود إلى شيء، لكننا هنا نقف مستغربين من منظمة أممية تعنى بالعلوم والتراث والثقافة تضيف إلى تراث البشرية، أقل ما يحتاج إلى هذا الاهتمام، في مدينة تاريخية بها من الأولويات الثقافية التي يحتاجها أهلها ما يفوق أمر هذه القباب، ناهيك عما حشدته من أموال لإعادة ترميمها، كان أهل المدينة المعوزين أكثر حاجة إليه، بعد أن قضى الإرهاب وسياسات حكوماتهم على الأخضر واليابس.

فلا يتصور أن منظمة عالمية تقوم على تكريس مثل هذا، وفي هذه المدينة تحديدا، إلا إن كان الغرض من ذلك إمعانا في القيام بدور في فرض حالة الإهمال الذي عانته وتعانيه جوهرة الصحراء وأحد أعظم منارات العلم فيها (تمبكتو)، ما لفت الانتباه إليه كثير من أبناء المدينة الذين يرون أن المحافظة على إنسان المدينة وحياته، لهو الأولوية.

في يوم الاثنين ذاك وقف أحمد الفقي المهدي معترفا بالخطأ طالبا العفو والصفح واستخدم عبارات كفيلة بتحويله في نظر القاعدة التي انتمى إليها يوما ما من "مجاهد شجاع" إلى "مرتد مرتزق"، فهل هناك غيره ممن أوصلوا المدينة وأهلها إلى ما هم فيه لديه شجاعة الاعتراف؟

تمبكتو المدينة العريقة الساحرة ليست اليوم إلا بقايا أبنية تدفن الرمال كل يوم جزءا منها، غارقة في الإهمال والتهميش ينهش الفقر والمرض والجوع أجساد سكانها.

لا يقبل بأي حال من الأحوال التعدي على القبور لأن حرمة الميت كحرمة الحي، كما لا يستساغ اختزال مدينة مثل تمبكتو في مجموعة من القبور.

خاتمة:

أوشكت قضية الأضرحة أن تطوى، فهل آن الأوان أن تنشر قضية سكان المدينة الأحياء، المحاطون بالموت من كل جهة، وإنقاذ تراثهم الحقيقي المتمثل في آلاف المخطوطات العلمية التي تتآكلها الأرضة؟