سارع السياسيون اللبنانيون إلى تقديم واجب العزاء "لأهلنا في الشمال" بعد كارثة غرق "زورق الموت".

والمهزلة أن كل سياسي قرأ الكارثة وترجمها من خلف متراسه السياسي، مستغلا إياها ليقصف خصومه ويسجل مواقف شعبوية لا علاقة لها بالأسباب التي دفعت الضحايا إلى المغامرة هربا من موت محتم في الجحيم اللبناني إلى حياة محتملة ومستقبل مضمون إن هم تمكنوا من الوصول إلى وجهتهم.

وبالتأكيد لا علاقة لمواقف من صنعوا هذا الجحيم بالمعالجات اللازمة للحد من مفاعيله.

وقمة المهزلة هي في "الكليشيهات" الجاهزة والمطالبة بالتحقيق السريع والشفاف لكشف ملابسات المأساة، المعروفة سلفا، لا سيما عندما تصدر هذه المطالبة عن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، الذي قاد حملة القضاء على التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، كما قاد في السابق حملة القضاء على المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري والاغتيالات التي تلت وسبقت هذه الجريمة.

أما قمة الفتنة، التي يصنعها من يحذر منها، فيعكسها ما حصل بعد الكارثة. اذ سرعان ما اشتعلت مدينة طرابلس على خلفية ادعاء عدد من الناجين بأن زورق خفر السواحل اللبنانية قد تعمد الاصطدام بقاربهم وإغراقه متسبباً بسقوط عدد من الضحايا.

وبكبسة زر، بدأ الهجوم على الجيش ليضعه بمواجهة الناس، الذين تكفي شرارة لتحركهم فينفسوا غضبهم بالعنف، وفي بيئة تعبث بها الأجهزة منذ عقود، بما يحرف الأنظار عن المرتكبين الحقيقيين للجريمة الذين لم يتركوا للبنانيين الا الموت حرقا او غرقا او جوعا او مرضا.

والمعروف أن خطة ممنهجة منذ عقود تعمدت إهمال طرابلس وجعلها بؤرة للحرمان والتطرف والسلاح المتفلت، اذ لم يتوقف الإعلام المغرض لمخابرات محور الممانعة عن تصويرها بأنها بؤرة ارهابية، وأنها "قندهار لبنان".. هذا عدا التقارير الغامضة والكاذبة، عن متطرفين يعيشون في شمال لبنان، ويخططون لتفجيرات، او يتحضرون لعمل أمنى..

والمعروف كذلك أن هذه الخطة تم تفعيلها بعد انتفاضة 2019. حينها حازت عاصمة الشمال على لقب "عروس الثورة" وكسرت القوالب التي أُرغمت على البقاء أسيرة لها، لذا وجبت معاقبتها وتم تفخيخ الحراك الشعبي المدني بافتعال أحداث أمنية أدت إلى سقوط ضحايا صاروا نسيا منسيا، وبالطبع بقيت الأحداث بمعزل عن أي تحقيق في اندلاعها ومحاسبة المرتكبين.

وليس بعيدا عن هذه الخطة يأتي توتير الوضع واستغلال غضب أهالي ضحايا "زورق الموت" للنيل من قائد الجيش جوزيف عون، الذي يزعج حزب الله من جهة، اذ اتهمه نصر الله في خطاب له بأنه يتلقى أوامره من مسؤولين أميركيين يقيمون في مكتبه، كما يزعج حليف الحزب وصهر رئيس الجمهورية جبران باسيل الطامح الى وراثة كرسي الرئاسة بعد انتهاء ولاية عمه، ويرى في "القائد" رقما صعبا وخصما لا بد من إزاحته.

ويبقى الأهم أن توتير طرابلس يندرج على رأس الأسباب الممكن أن تؤدي إلى نسف الاستحقاق الانتخابي إذا انفجر الوضع الأمني وصعب ضبطه، بعدما اقترب موعد هذا الاستحقاق مرفقا بإشارات سلبية تقضي على إمكانية حصول حزب الله وحلفائه على أكثرية الثلثين التي تتيح له فرض ما يريده لاستكمال مشروع مشغله الإيراني في لبنان.

فالمعطيات بالكاد تمنح هذا المحور أكثرية بالكاد تتجاوز نصف النواب، وتحديدا بعد العودة الدبلوماسية الخليجية الى لبنان، وما أضافته من دعم معنوي يشجع المحبطين من الناخبين السنة على المشاركة.

وربما تصبح الإطاحة بالاستحقاق النيابي من بوابة طرابلس فرصة بهدفين مزدوجين، الأول تجنب خسارة التحكم بالحياة السياسية والتشريعية عبر البرلمان، والثاني اتهام دول الخليج والولايات المتحدة بتخريب هذا الاستحقاق، بعد تمهيد لهذا الاتهام واضح في خطابات قادة الحزب ونوابه.

ولا يخرج عن مسعى التوتير بغرض تأجيل الانتخابات، او شد العصب في البيئة الحاضنة لحزب الله والمتململة من تردي الأوضاع الاقتصادية، التوقيت المشبوه لإطلاق صاروخ من جنوب لبنان باتجاه شمال إسرائيل تحت ذريعة "التضامن مع الأقصى"، والرد الإسرائيلي عليه بقصف مماثل.

بالتالي، يأتي استغلال الاحداث المتفرقة، مناسبا لطرح مصير الانتخابات.

وإذ يرى البعض أن الأمر مستحيل لأن قرار دولي يربط التعامل مع لبنان بناء على نتائج هذه الانتخابات، ولا يمكن تطييرها بسبب حوادث كمأساة "زورق الموت"، إلا ان الاستفادة من هذه المأساة ممكنة لجهة استغلال الأصوات الغاضبة وتوجيهها وفق خيارات انتخابية معينة.

وهكذا، يدفع اللبنانيون مرة جديدة ثمن تطبيق الأجندة، بانتخابات او من دونها، ليكتفي المسؤولون بإصدار بيانات الاستنكار بمهارة موصوفة، ومصادرة وجع المواطن والمتاجرة به، ومواصلة العمل على انهيار البلد.