أنهى وفد من الكونغرس الأميركي الأربعاء الماضي زيارته إلى لبنان، رأس الوفد السيناتور كريس مورفي، رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ. جال الوفد على الرئاسات في لبنان والتقى مسؤولين آخرين. وراح مورفي يلقي العظات ويطلق المواقف ويقترح سبلاً لمعالجة الأزمة اللبنانية والخروج من مأزقها.

ينتمي كريس مورفي إلى الحزب الديمقراطي. وهو من الداعين إلى عودة بلاده سريعا إلى اتفاق فيينا النووي مع إيران، والواعدين بانسحاب الولايات المتحدة من شؤون الشرق الأوسط. قبل زيارته لبنان لاحظ في أغسطس، في "بودكاست" مع مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، أن بلاده انفقت المليارات ووسّعت وجودها العسكري في الشرق الأوسط وأن "ثمار ذلك لم تعد ضرورية بالنسبة للولايات المتحدة". وعلى هذا فإن السيناتور الديمقراطي يستعيد بنهم ما كان دونالد ترامب الجمهوري يبشّر به من تقليل للجانب الأخلاقي والاستناد على ثنائية الربح والخسارة في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. 

زميل مورفي في الزيارة اللبنانية، السيناتور ريتشارد بلومنتال، اعتبر أن حزب الله "يخلق الدمار في المنطقة وهو سرطان ينتشر في لبنان"، فيما يحذر  مورفي لبنان من استقبال بواخر النفط الإيرانية (المفترض أنها قادمة إلى البلد استجابة لنداء / استغاثة أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله)، لما قد يعرّض البلد من عقوبات. أما النصيحة الفذّة التي حملها "الشيخ" الديمقراطي فهي تشكيل حكومة تنهي الفراغ الحكومي، وبالتالي تعيد الوصل مع البلدان والمؤسسات المانحة في العالم. وهي فكرة لم يهتد لها غيره من قبل، 

"هو سرطان ينتشر". لكن مورفي بالمقابل يعتبر أن "حزب الله هو جزء من التركيبة اللبنانية"، وبالتالي، استنتاجا، فإنه ليس بالضرورة مسؤولا وحيداً عن الفتك بالبلد. ونستخلص من كلام السيناتور أن الكارثة ليست في السلاح المتفلّت المسلّط ضد لبنان واللبنانيين، ولا في سطوّ الدويلة على الدولة والبلد ومداخيله ومؤسساته ومرافقه وحدوده ونظام وعيشه، ولا في امساك ميليشيا بقرار الحرب والسلم ولا في حماية هذه الميليشيا لمافيا الفساد السياسي والمالي في البلد.. إلخ. فكل ذلك، وفق ما نفهم من تقييم السيناتور، من عاديات الأمور التي تمارس في أي بلد، وحتى ربما في الولاية التي يمثّلها (كونتيكيت).

المشكلة في عرف رئيس الوفد الأميركي تكمن في امتناع العرب، لا سيما السعودية، عن دعم لبنان وتمويل الخروج من مأزقه. يخبرنا السيناتور مورفي، وكأنه يكتشف سبقا، أن الرياض غير مرتاحة لوضع لبنان ومواقفه وخياراته بسبب الهيمنة الإيرانية على هذا البلد من خلال حزبها هناك. وينصح مورفي، الذي يبدو غير متفهم للموقف العربي السعودي، بالتصالح مع حقيقة أن "حزب الله سيكون على الأقل على المدى القصير جزءاً من البنية التحتية السياسية هناك".

يصل مورفي وصحبه إلى بيروت في زيارة تكاد تكون سياحية لم تترك أي معنى سياسي بالإمكان التأسيس عليه. حتى الإعلام اللبناني، الذي لطالما يبالغ في تأليف التحليلات حول أي صغيرة وكبيرة -فما بالك إذا كان الحدث زيارة وفد أميركي- لم يفهم كثيرا الزيارة ومواقف أصحابها وسرعان ما أعاد الانشغال بأحداث داخلية وجدها أكثر نجاعة من جلبة وفد الكونغرس "السياحي".

استثمر العرب، وخصوصا دول الخليج، في لبنان كثيراً وقديما وقبل ولادة كريس مورفي. لم يتوقف هذا الدعم ولم تتوقف التمويلات الخليجية يوما، بأشكال مباشرة وغير مباشر، رسمية وأهلية، على الرغم من العبث الذي مارسه حزب الله ضد لبنان واللبنانيين، وعلى الرغم من تحوّل بيروت تحت هيمنة الحزب إلى منصّة لشنّ حملات الشتم ضد السعودية ودول الخليج. وحتى حين اغتال "عنصر" من حزب الله (وفق اتهامات وأحكام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان) "رجل السعودية" في لبنان رفيق الحريري، لم تتوقف الرياض ودول الخليج عن دعم لبنان والدفع بما يرفد استقراره وازدهاره.

يحتاج لبنان إلى عودته للحضن العربي وإلى عودة إيمان العرب، وبلدان الخليج خصوصا، بحيوية الاستثمار به ومنع سقوطه وربما انتشاله من قدر الاختفاء، وهو مطلب لبناني بامتياز. لكن كريس مورفي جاء وصحبه إلى بيروت حاملا "عقيدة" كان باراك أوباما قد سعى إلى تسويقها حين كان رئيسا لبلاده. 

كشف الرئيس الأميركي في مارس 2016 آنذاك للصحفي جيفري غولدبرغ في صحيفة "ذي أتلنتيك" الأميركية ما اعتبُر عقائد أوباما في السياسة الخارجية. من تلك العقائد أنه لا يرى إيران خطراً على بلدان الخليج، داعيا السعودية إلى تشارك الشرق الأوسط مع إيران. يعيد السيناتور مورفي استراتيجية مفادها الدفع باتجاه اتفاق بلاده والعرب مع إيران بصفتها ثوابت وجب التأقلم معها وإغفال أخطارها على العرب وأميركا، ورفد ذلك الخيار بتوجيه الانتقاد لدول الخليج وحثّهم على التعايش القهري مع "الأمر الواقع" الإيراني.

قد لا يعبر كريس مورفي عن التيار السياسي الموجّه للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، لكنه يكشف جانبا من ورش التفكير النشطة في واشنطن والتي بات يتاح لها الترويج لعناوينها في الشرق الأوسط. الرجل يفضح من حيث لا يدري نزوعا أميركيا للانسحاب من الشرق الأوسط وغرورا مستفزّا حول يقينية من عدم نية وقدرة الحلفاء على استبدال التحالف مع أميركا بتحالفات أخرى. في منطق الرجل تلعثم وتخبط وارتباك يشبه تماما ذلك الذي تتّسم به سياسة واشنطن الحالية في العالم.

واللافت أن زيارة الوفد الأميركي لم تقدم وتؤخر شيئا ولم تكن علامة فارقة في يوميات الأزمة "التاريخية" في لبنان. واللافت أيضا أن أحدا لم يأخذ فتاوى مورفي على محمل الجد، ذلك أنه أتى إلى المنطقة منتشيا غير مدرك للخيبة التي تقاسي منها بلاده في تلفيق مخارج يومية من محنتها الأفغانية.

في ثنايا ما عبّر عنه مورفي تسليم أميركي بقدرية "الدويلة" ودعوة "الدولة" للتعايش معها. وحين نظّمت أميركا انسحابها من أفغانستان بالتفاوض مع طالبان وليس مع الحكومة الشرعية في كابول، فهي جعلت من هذا السلوك "عقيدة" جديدة في واشنطن.