تغادر الولايات المتحدة أفغانستان ومعها كل الدول الحليفة. تترك واشنطن البلد ليتحوّل إلى ميدان تواجهه دول أخرى بعضها يناصب أميركا الخصومة والعداء. فوق ذلك فإن تلك الدول ترتبط بتحالفات متعددة الأشكال والحوافز والتسميات ما يفترض أن يجعل من مقاربتها للشأن الأفغاني الجديد جماعيا منسّقا غير متناقض.

إلا أن ذلك التآلف قد يكون نظريا ويحتاج إلى مزيد من الوقت والتجربة للخروج باستنتاجات نهائية.

ترتبط الصين وروسيا بعلاقات متقدمة توصف بالاستراتيجية لا سيما في السياسة والدفاع والاقتصاد. ويُدعّم موقف الغرب العدائي من موسكو وبكين لُحمة العاصمتين وتَقَارب رؤاهما في الكيفية التي يمكن من خلالها، موحّدين، أن يواجهوا الضغوط الواردة من المنظومة الغربية وواجهاتها المعلنة: مجموعة الدول السبع إلى الاتحاد الأوروبي مرورا بالحلف الأطلسي.

وترتبط الصين وإيران باتفاقية استراتيجية لمدة 25 عاما جاءت تتويجا لتقدم متدرّج في علاقات بكين وطهران. ولطالما استقوت "الجمهورية الإسلامية" بالتحالف الجديد مع الصين لتقوية أوراقها في التفاوض مع الولايات المتحدة، لا سيما ذلك الذي شهدته فيينا في 6 جولات حتى الآن.

وترتبط روسيا وإيران بعلاقات متقدمة تحفّزها حاجة البلدين إلى تعظيم تبادلاتهما الاقتصادية، إضافة إلى سعيهما إلى تكامل سياسي وجيوسياسي بحكم ضريبة الجغرافيا، لاسيما حول بحر قزوين. كما أن العامل السوري طوّر علاقة البلدين المتأسسة على حاجة روسيا لقوى إيران براً لتثبيت موقع روسيا في سوريا، وحاجة إيران إلى قوى روسيا الجوية للدفاع عن مكتسباتها السورية وامتداداتها باتجاه لبنان.

على أن تقاطع روسيا وإيران وتركيا داخل عملية آستانا لإدارة صراع الدول الثلاث داخل سوريا طوّر من دينامية العلاقة بين الدول الثلاث التي يفترض أن تلتقي مصالحها مرة أخرى داخل التحوّل الذي طرأ على أفغانستان، علماً أن تركيا التي وعدت نفسها بموقع مرحب به بعد انسحاب أقرانها في الحلف الأطلسي، لم تجد لدى حركة طالبان ذلك الترحاب المتوخى.

أما الهند فهي لاعب كبير في المنطقة ووسّعت في السنوات الأخيرة من انخراطها في أفغانستان. وتتطلع نيودلهي إلى تمتين ومدّ نفوذها في هذا البلد لأسباب تتعلق بطموحات الهند الاقتصادية في المنطقة، ولأخرى ترتبط برغبة الهند في "تفخيخ" أفغانستان ومنعها من العودة إلى أن تكون حديقة خلفية حصرية لباكستان.

ومع ذلك فإن مقاربات كل الدول المعنية بالشأن الأفغاني لا تحظى بأي تنسيق أو تكامل، ما ينبئ بإمكانية تناقض تلك الأجندات والمصالح. والمفارقة أن الدول الإقليمية جميعها تلتقي مع الخصوم الغربيين على قاسم مشترك لا لبس في حقيقته وهو الهاجس الأمني والخوف من الإرهاب.

إيران لا تريد أن تكون أفغانستان شوكة عقائدية (سنية) على حدودها الشرقية.

والهند لا تريد أن تكون أفغانستان الطالبانية داعمة لمن يقاتلها في كشمير.

وروسيا لا تريد لأفغانستان أن تهدد حلفاءها على الحدود (أوزبكستان تركمانستان وطاجكستان) وتعبث بعلاقات مريبة مع خلايا إسلامية في فضائها الداخلي (من شيشان وغيرهم).

والصين لا تريد من أفغانستان أن تكون ملجأ وحاضنا لجماعات الإسلاميين الإيغور.

والدول الغربية لا تريد أن تعود أفغانستان لتكون منطلقا للجماعات الإرهابية التي قد تهدد أمنها على منوال ما ارتكبه تنظيم القاعدة منذ ما قبل اعتداءات 11 سبتمبر 2001.

وحدها باكستان ومخابراتها تحظى بعلاقات تاريخية عريقة مع حركة طالبان ومع مجموعة البشتون القبلية في أفغانستان. لكن المفارقة الكبرى أن باكستان التي من المفترض أن تكون أكثر الأطراف فوزا بانتصار طالبان، فإن فيها من يرى في الأمر نذير شؤم وضرر، ذلك أن صعود طالبان سيقوي من عضد التطرف الإسلامي داخل باكستان نفسها، ويبعد البلد عن الخيار الذي كان دعا إليه قبل أربع سنوات، قائد الجيش الباكستاني الحالي، الجنرال قمر جاويد باجوا، بتحويل باكستان إلى "دولة طبيعية" وما يتطلبه ذلك من تحسين للعلاقات مع الهند وتقليل اعتماد باكستان على الصين.

وفق هذه المعادلة ستمدّ كل دول العالم اليد إلى حركة طالبان شرط أن تبقى أفغانستان مكانا لا يشكل خطرا على القريب والبعيد. ووفق نفس المعادلة ستكتشف طالبان الورقة الأمنية كأداة فاعلة في علاقاتها الجديدة التي تَعِد بها مع العالم. ولئن تكرر الحركة حرصها على إقامة علاقات جيدة مع كافة الأطراف الخارجية وتتعهد، على الأقل وفق الاتفاق مع الولايات المتحدة في الدوحة، على عدم إيواء أو دعم أو تمويل أية جماعات إرهابية قد تخطط لاستهداف أميركا (وحلفائها ضمنا)، فإن تلك الورقة ستبقى عاملا حيا قد يصعب عدم التلميح إليه والتلويح به في كل سلوك رسمي أو "غير منضبط" قد تلجأ إليه طالبان مستقبلا، ما يُبقي لملف الأمن دينامية ابتزاز محتمل.

واللافت أن الهمّ الأممي الأمني بشأن أفغانستان الجديدة والذي تستنجه طالبان يوما بعد آخر، من شأنه تمسّك الحركة بخياراتها "الجهادية" التي وصلت بها إلى مستوى فرض انسحاب القوات الأجنبية واستيلائها على مقاليد الأمور في البلاد. وفي غياب أي مواقف واضحة حازمة حاسمة من مسائل العلاقة مع الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية الدائرة في فلكه، وفي غياب أي أدبيات سياسية أو فقهية حول العلاقة مع العالم والعصر وقواعده، فإنه سيبقى صعبا التصديق بسهولة بأن طالبان قد تغيرت، أو أنها قادرة أساسا على التغير، وهي التي بنت مجدها ونصرها على تربية داخلية من الصعب أن تتصالح مع أنماط حديثة تتعرف عليها.

يرى أوليفيه روا الباحث الفرنسي المتخصص في الشؤون الإسلامية أن طالبان تغيرت وتطورت لكن هذا التطور يخص السياسة والعلاقة مع العالم ولا يعتقد أنه يمسّ نظرتها للمجتمع. وربما أن ما يذهب إليه روا هو ما يخيف الأفغان من حيث ذهاب طالبان إلى الحدود القصوى في طمأنة الخارج وإرضائه بالالتزام بمنع الإرهاب من الانطلاق من أفغانستان، فيما يُترك للحركة إدارة الشأن الداخلي فتغضّ العواصم الطرف عنه وتكتفي بالاطلاع على تقارير منظماتها الحقوقية فتصدر بيانات "القلق" وتصريحات الأسف. تكتفي طالبان في هذا الصدد بالإعلان عن سماحها للنساء بالتعليم والعمل. فتبتسم بعض العواصم البعيدة وتبدي الاعجاب بهذا التطور الحضاري العظيم.