أثارت زيارة قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون إلى باريس ردود فعل لافتة لما انطوت على إشارات فرنسية وربما دولية حيال الأزمة في لبنان. كان لافتا استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للضيف اللبناني في قصر الاليزيه، بما اعتبر “سابقة” لا يمكن إلا أن يكون لها مقاصد وأهداف، ذلك أن رجل فرنسا القوي يعرف تماما ما سيحدثه تمييز قائد الجيش من تأويلات مقلقة في بيروت.

بدا أن تجاوز ماكرون للبروتوكول واستقباله "موظفا" لبنانيا برتبة قائد جيش يكشف آليات جديدة في تعامل باريس مع ملف لبنان. طورت فرنسا ورئيسها منذ زيارة "الحرد" التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان قبل أسابيع، مسالك جديدة تستغني، مؤقتا، عن دخول البلد وأزماته من الأبواب المعهودة.

تفاءل اللبنانيون حين هرول ماكرون باتجاه لبنان بعد يومين على كارثة انفجار مرفأ في بيروت في أغسطس الماضي. نقلت الشاشات طلب مواطنة خاطبته باللغة الفرنسية: "سيدي الرئيس لا تعطوا أموالاً لحكومتنا سوف يسرقونها". أجابها بكل ثقة: "لا تقلقي لن نفعل". 

حمل ماكرون مبادرة أرادها أن تتحقق من خلال الطبقة السياسية اللبنانية التي تتحمل مجتمعة مآلات السقوط الذي انتهى إليه البلد. نال الرئيس الفرنسي حينها تعهدا من تلك الطبقة السياسية بالعمل على تشكيل حكومة اختصاصيين تنال ثقة المجتمع الدولي لتقديم الدعم إلى البلد المنكوب.

فشل لبنان في تشكيل حكومته. كثفت باريس جهودها. وسّعت من مروحة اتصالاتها الدولية والإقليمية العربية لعلها تفلح في إنتاج حكومة تعجز بيروت عن إنتاجها. لم يكن سهلا على ماكرون تسويق الحل اللبناني لدى واشنطن والأوروبيين كما لدى طهران والعواصم العربية المعنية. بيد أن باريس عوّلت على مخارج محلية تتم هندستها بأدوات لبنانية بيتية قد تفرض نفسها على المتحفظين في العالم. غير أن حسابات ساسة لبنان أحبطت اللبنانيين وأحبطت حماسة ماكرون وفرنسا لمد يد العون إلى لبنان.

في زيارة لودريان الأخيرة إلى لبنان مارست باريس غضبا وحردا من كل الطبقة السياسية. لم يدخل الرجل من الأبواب الرسمية التقليدية متجاهلا بروتوكولات البلد وأعرافه. التقى بعض الوجوه السياسية المعارضة وممثلين عن المجتمع المدني، وقيل إن ضغوطا مورست اضطرته مكرهاً للقاء رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري وإن اجتماع الرجلين كان متوتراً. راح محللو بيروت يتبرعون بإعلان موت المبادرة الفرنسية وتخلي فرنسا عن لبنان.

تنفي زيارة قائد الجيش اللبناني الأمر، لا بل أن استقباله من قبل الرئيس الفرنسي يؤكد متانة جهود فرنسا واستمرار مبادرتها وإن بأساليب جديدة. وفيما راج أن باريس تُعد عقوبات لفرضها على بعض شخصيات البلد، فإن إعلان فرنسا ورئيسها عن دعم الجيش اللبناني وتمييز المؤسسة العسكرية وقائدها كما تنظيم مؤتمر دولي لصالحها، يفصح عن حرص فرنسي كثيف على مقاربة الأزمة اللبنانية من خلال حماية مؤسسة الجيش بصفتها العمود الفقري للبلد وقاعدة يعوّل عليها لانقاذه.

في لبنان من اعتبر أن ماكرون ومن خلال استقباله لقائد الجيش اللبناني يفتح ملف الانتخابات الرئاسية في لبنان الذي تقف حساباته وراء الاستعصاء الحالي لتشكيل حكومة في لبنان. أسماء مثل سمير جعجع وسليمان فرنجية طامحة لهذا الموقع، فيما يعتبر جبران باسيل نفسه وريثاً "طبيعيا" لتركة عمه الرئيس ميشال عون في منصب الرئاسة. بيد أن التقاليد السياسية التي عرفها البلد في تجربة فؤاد شهاب كما في تجارب (ما بعد اتفاق الطائف) كل من إميل لحود وميشال سليمان وحتى ميشال عون كقائد سابق للجيش اللبناني، يجعل من القائد الحالي جوزيف عون مرشحا طبيعيا أيضا لمنصب رئاسة الجمهورية المقبل.

وراء تلك الحيثية يقف ذلك التوتر في علاقات باسيل مع جوزيف عون الذي يستقبله ماكرون في قصره. صحيح أن ليس بالضرورة أن تلاقي حسابات باريس تفسيرات المحللين في بيروت، إلا أن الأمر أثار في لبنان أوجاعا لدى كل المرشحين للمنصب الأول في البلد، خصوصا أن سلوك باريس لا يختلف حيال الجيش اللبناني عن سلوك واشنطن التي لطالما أشادت بالجيش وخصّته بالدعم وكرّمت قائده الذي تعود لاستقباله قريباً. غير أن للفتة باريس حيال شخص العماد جوزيف عون جرعة إضافية تتيحها علاقات فرنسا التقليدية والتاريخية مع لبنان وجيشه.

تؤكد فرنسا من جديد أنها ما زالت صاحبة المبادرة الدولية الأولى في لبنان، وأن لبنان قاعدة بديهية لأي سياسة فرنسية في الشرق الاوسط. لا يمكن لباريس أن تزعم سياسة واعدة لها في المنطقة إذا ما تخلت عن دورها في هذا البلد. وإذا كان لفرنسا أجندات خليجية أو أخرى تستند على العلاقة المميزة مع مصر أو ثالثة تتطلع إلى إيران إذا ما خرج الدخان الأبيض من مداخن فيينا، فإن باريس تحتاج للمثابرة لتأكيد حضورها الاستثنائي في لبنان.

تستفيد فرنسا هذه الأيام من تراجع "التشويش" الأميركي على هذا الدور والذي كان رائجا خلال إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. من زار واشنطن أدرك أن ملف لبنان هامشي في حسابات الإدارة الأميركية وملحق بملف العلاقة مع إسرائيل ومستقبل العلاقة مع إيران ومآلات الشأن السوري. ومن زار موسكو أدرك أن روسيا رفعت مستوى اهتمامها بالشأن اللبناني لارتباطه بما تخطط له في سوريا وفي انخراطها بسوق الطاقة في شرق المتوسط، لكنه استنتج بسهولة ان الروس يرفضون الانخراط بأي مبادرة يمكن أن يفهم منها منافسة للدور الفرنسي في هذا البلد.

ربما أن فرنسا فككت شيفرة الاستعصاء الحكومي في لبنان واكتشفت أن الفيروس مصدره "مختبرات" انتاج رئيس مقبل للبلد. تستبق باريس ذلك الاستحقاق بالتلويح بترياق ولقاح. يبقى أن الأمر سيخضع لمصادقة العواصم القريبة والبعيدة في مختبراتها، ذلك أنه قد يكون لها مصالح في إنتاج لقاحات منافسة وبديلة. ربما أن حراك فرنسا مهتم بانقاذ الجيش اللبناني من أزمته المادية التي تهدد كيانه وليس هدفه التسبب بأي ضرر يمسّ مشاعر المسترئسين. بيد أن ما ظهر من قلق في بيروت يدفع باريس إلى استنتاج أنه "رب ضارة نافعة".