4 ـ متن الروح

منطق الإنسان البرّي هو التحدي السافر لعقليّة الإنسان الحضري.

فالعقلية المعتمدة كعُرف في حياة الإنسان البرّي، الصحراوي تحديداً، عقليّة ميثولوجيّة، وهي، بهذا التعريف، رأسمال فلسفة العقل البرّي.

ولو تأمّلنا علّة الإنقسام، التي شقّت القبيلة الإنسانية الراحلة في مستهلّ عهدها بالوجود، إلى قطبين إثنين، لاكتشفنا أن الملكيّة هو ما لعب فيه دور البطولة.

فإذا قنعنا بالمعرفة كخطيئة أولى، مسئولة عن اغتراب السقطة الأولى، فإن إدمان الملكيّة كان الخطيئة الثانية، المسئولة عن اغتراب السقطة الثانية، التي طوّقت عنق الجنس البشري بلعنة صارت في تجربة وجوده دراما، صارت في تجربة وجوده علامة ربوبية لا تختلف عن العلامة التي وَسَمَ بها الربّ جبين قابيل لكي «لا يقتله كل من وجده»، كما يرد في سفر التكوين، في حين يجب أن نقول «لكي يقتله كل من وجده»، كما يقضي سفر المنطق، عملاً بحجّة العدالة الإلهيّة المترجمة في حرف الوصيّة القائلة: «ولكم في القصاص حياة».

والجدير بالملاحظة هو موقف الربوبية من هذين النموذجين، اللذين وضعا حجر الأساس للشريحتين الوجوديّتين، اللتين كان لهما الفضل في بلورة قطبين، يرتقيان روحيّاً، إلى مستوى الملّتين المتعاديتين، كأنّهما فصيلتان من أرومتين مختلفتين: نموذجان يسكنان، ويا للعجب، هويتين أخويّتين، بل شقيقتين، منتسبتين لأبوين حميمين، منتميين إلى طينة جسد واحد، مستعارتين من طبيعة ترابٍ واحد، دقّ بينهما الموقف من الوجود إسفين عداءٍ، أدّى إلى وقوع أبشع ما يمكن أن يتنزّل في حقّ سلالة طينٍ، لم توجد إلّا لتوجد، لا لتعدم حقّ الوجود.

موقف النموذجين ليس مختزلاً في الموقف من القربان، ولكنه يسكن الموقف من الوجود، الذي أبدع القربان، لأن المبدأ في النزال كان وليد تجربةٍ تبدو بريئة، كما الحال مع الحرفة. الحرفة التي نختارها لأنفسنا، لتكون لنا برهان حضور، حجّة وجود، ولكنها من الخطورة بحيث تستطيع أن تهيمن في نشاطنا، فتقرّر مصيرنا، سيّما إذا آمنّا، مع من آمن، بأن قيمة كل إنسانٍ ليست في ما يحلم، ولكن فيما يُحسن. والمأزق الذي اعترض سبيل نموذج كهابيل هو شغفه بالسياحة في أرض الله الفاتنة، فاستسلم للإغواء، وسرح يطارد الآفاق التي تتوالد في الآفاق، ليختار لنفسه الرعي دمية وجود، لأن الإنسان لا يملك الحقّ في أن يدّعي لنفسه حضوراً قيد الوجود ما لم يمارس عملاً، ما لم يحترف حرفةً؛ فكان في البدء الرعي!

وحقّ لنا أن نتساءل: لماذا الرعي؟ أو بالأصحّ: لماذا صار الرعي عملاً رديفاً لمبدأ جسيم كالحرية، حتي يحظي بمباركة الربّ من دون كل الحرف؟

السرّ يكمن في طبيعة الرعي. فهو عهد سلام مع أمّ حميمة هي اليابسة، هي الأرض، بحيث يتمّ الإعتراف بناموسها العادل، القاضي بوجوب الإكتفاء بما تهبه، دون التطاول بمحاولة الإنقضاض على ما امتنع من عطاياها السخيّة. ذاك كان أول درس في الزهد. كان أول درس في عتبة السُّلّم، لأنه اعتناقٌ طوعيّ بتسليمٍ. وهي كلّها حبّات خرز ذهبية، في بُنية مسبحةٍ قدسيّةٍ هي: الحريّة!

ولكن هذا ليس كل شيء. فاحتراف حرفة كالرعي بطولة أخرى بما هي موقف مبدئي من أمٍّ عظمى هي: الطبيعة. موقف من الأرض التي يرفض مريد الحرية أن يمسسها بسوء، طمعاً في استخراج الكنوز التي أخفتها عنه رحمةً به، في حين يحسب حزب الجشع أنها منعتها عنه بخلاً منها، فيعلن عليها الحرب!

فحزب الرعاة وحده طيف قنوع، يفضّل أن يقبل من يدي الأمّ ما تهبه له طوعاً، فيهنأ بمرضاتها، لينام بسلامٌ، ملبّياً، بهذا التسليم، نداء أعظم لغز وهو: الضمير.

والواقع أن نقاء الضمير ليس الجائزة الوحيدة في حياة نموذج هابيل.

فهابيل لم يتحوّل هويّةً في سيرة القبيلة البشرية التي اختارت الرحيل ديناً، لتفوز بلقب «القبيلة الألهيّة»، من قطبٍ كالقديس أوغسطين، لولا مواهب سحرية أخرى استزرعتها الأقدار في وجدان كل من اختار الرعي ماهيّةً. ذلك أن الرعي ليس مجرد رعاية قطعان أنعام ترتع في مراعي الكلأ، ولكنه تجربة روحية، يمارس فيها الراعي دور القابلة التي تروّض الأجنّة لتيسّر نزولها ساحةً عصيّةً وخطرةً كالوجود. وكل مَن أخفق في ترويض الأنعام في مواقع الكلأ، سوف لن يفلح في ترويض النفوس على الحقيقة، علاوة على طبيعته كترويض للنفس على شبح بعبع هو: العزلة! لأن العزلة هي عتبة لترويض النفس على الحرية.

ولهذا السبب كان الرعاة رُسُل خلاص. لهذا السبب كان الرعي حرفة الأنبياء. لأن الرعي تجربة تجَلٍّ، تجربة استدرار لشآبيب التنزيل، تجربة تحرير، لن تتوّج بأكاليل غار التغيير، ما لم تتمرّد على واقع الطبيعة، لتبعث نفسها في واقع الروح. محقّقة بذلك معجزة ما تسميه كتب التوحيد بـ «الميلاد الثاني». تغيير ما بالنفس، الذي ينتهي بتجربة الميلاد الثاني، هو أول حرف في معجم الخلاص: الخلاص كشهادة على اجتياز امتحان النبوّة!

من الطبيعي أمام هذه الحجج أن ينحاز الربّ إلى موقف صاحب الرعي (هابيل)، ويرفض قربان شقيقه قابيل، بوصفه ثماراً مروية بنزيف الطبيعة الأمّ، وهي لذلك ملوّثة بدنسٍ هو: الملكيّة. فالفلاحة، في منطق القداسة، تجديفُ في حقّ الأرض، في حقّ الطينة المقدّسة، التي لفّقت طينة السلالة، لتصير بهذه الهويّة حَرَماً، تصير حرمةً، المساس بسلامتها هو، في عرف الوجود، تدخّلٌ دمويّ، اغتصابُ لبكارة وجود، ولذا هي: خطيئة لا تُغتفر.
ليس هذا وحسب، ولكن ثمار الفلاحة مجبولة بإثمٍ آخر يصير للسلعة دليلاً عند التسويق، وهو تلك الوساطة الآثمة، التي أطلق عليها الإنسان السومريّ العبقريّ، في بداية عهده بالزراعة، إسم «تامكرّا»، الدالّة في لغة التكوين، على الغشّ، أو اللصوصيّة، أو المكيدة، ليصير إسم السمسار في الصفقة (مَكَر) الدالّ في العربية على الخبث، وفي لغتي الطوارق والسنسكريتيّة على: اللصّ؛ تدليلاً على هويّة التاجر، الذي يحترف تسويق المنتوج الفلاحي، الملوّث بنزيف العذريّة الأموميّة، كطورٍ آخر في سلّم الإثم.

واقع الإثم هذا هو البذرة التي قام عليها كيان العالم الحضري، الذي تتوارى فيه الحرية استحياءً، أمام هيمنة نزعة الملكيّة، التي ستعتنق، منذ الآن، السلطة ديناً، ليغترب الناموس الطبيعي، الضامن، في عالم الإنسان البرّي، لحضور العدالة، فإذا بهذه العدالة تتبدّد، في دنيا العمران، فلم يجد إنسان هذا العمران مفرّاً من أن يصطنع لنفسه عدالةً مختلقة، مزوّرة، أطلق عليها إسم القوانين، في محاولة يائسة لاستعادة السلم بين أفراد القطيع البشري، المحشور خلف قضبان حبوسٍ، سُمّيت جدراناً، أو أسواراً، ولكن القوانين أخفقت في تحقيق أبجديات العدالة، لسببٍ بسيط، لأنها أبطلت مفعول وديعة خارقة هي الضمير، بوحيٍ من عقليّة عمرانيّة، لم يعد الناموس فيها حَكَماً في واقع الإنسان البرّي، ولكن الأيديولوجيات صارت في الواقع الجديد هي روح هذا الواقع، هي الدّين البديل للدين، هي متن الحرف الذي يُميت، بدل متن الروح الذي يُحيي.