مع الرسوخ النسبي لموعد الانتخابات البرلمانية المبكرة في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، بالاستحقاقات القانونية والضرورات السياسية اللازمة لخوض هذه الانتخابات بنجاح، يبدو أن الاحتجاج العراقي يقف على مفترق طرق مهم وصعب في ذات الوقت.

لم تطور قوى الاحتجاج المختلفة موقفاً موحداً بخصوص خوض الانتخابات من عدمه (والأهم من قرار المشاركة في حال اتخاذه هو كيفية الاستعداد لها). فالآراء بهذا الخصوص متباعدة، إذ يبدو أن بعض هذه القوى قد اتخذ قراره بالمشاركة، وأعلنت أخرى رفضها المشاركة، فيما يبقى طيفٌ واسع يتأرجح بين هذين الموقفين من دون حسم.

الانتخابات هي إحدى الوسائل المتيسرة لصناعة تغيير حقيقي ومؤسساتي في معادلة الحكم المُختلة عميقاً في العراق. لكنها ليست الوسيلة الوحيدة وينبغي ألا يُختصر الاحتجاج بخوض انتخابات، على أهمية هذا الأمر.

أصبح الاحتجاج، عبر صيرورته المفتوحة، المصدرَ الأساسي لتشكيل وإدامة هوية وطنية وثقافية عراقية ذات طابع ديموقراطي بمقدورها تدريجياً تغيير معنى وشكل السياسة في البلد. ينبغي أن تشمل هذه الصيرورة المفتوحة للاحتجاج استكشاف واستثمار كل الفرص المتاحة لصناعة التغيير البنيوي الديموقراطي في البلد مثل التظاهرات المطالبة بإصلاحات سياسية ومؤسساتية واقتصادية، وتشكيل رأي عام محلي وإقليمي ودولي ضاغط على الطبقة السياسية واحزابها التي تقاسمت الدولة ومواردها، وخلق بنى سياسية حزبية تستلهم الاحتجاج وقيمه من دون ادعاء تمثيله.

تتولى هذه البنى السياسية تنظيم نفسها لخوض الانتخابات بالاستفادة من الدعم الشعبي الواسع للاحتجاج وتحويله الى أصوات انتخابية. باختصار، ينبغي أن يقوم الاحتجاج، كخطة عمل وديمومة وجود، على استراتيجية الضغط المتواصل والدائم والمتعدد الجبهات على الطبقة السياسية المتنفذة وإقطاعها الحزبي والثقافة السياسية التي تمثلها (المذهبية والعرقية والمحاصصة والتوافق).

ضمن هذا الإطار الأوسع للمواجهة، تحتاج الانتخابات أن تحتل قدراً كبيراً من الاهمية لدى قوى الاحتجاج. لكن لسوء الحظ، لم تنجح معظم قوى الاحتجاج في فتح نقاش عقلاني وواقعي بخصوص خوض الانتخابات، إذ تغلب على الكثير من الحجج التي يجري تداولها بهذا الخصوص في أوساط الاحتجاج الاندفاعاتُ العاطفية والشعبوية والمثالية التي ستضر باخر المطاف بقضية الاحتجاج ومستقبله السياسي، إن بقيت هذه الاندفاعات من دون عقلنة وتمحيص على أساس الوقائع والحقائق وليس الأمنيات والطموحات.

تتمحور أهم الاعتراضات على خوض الانتخابات حول ربط المشاركة بها بتنفيذ عدة مطالب احتجاجية بخصوص تقديم الحكومة قتلة المحتجين للمحاكمة وضبط السلاح المليشياوي "المنفلت" ووقف مطاردة المحتجين من جانب حملة هذا السلاح، وأبعاد المال السياسي عن الانتخابات وضمان نزاهتها من التزوير المحتمل من خلال اشراف أممي.

لا مكان اصلاً لمثل هذه المطالب في الدول المستقرة التي تقودها المؤسسات الرصينة وليس الإقطاعيات الحزبية، ولا تهيمن فيها الصراعات العميقة ولا ينخرها الضعف البنيوي كما هو حال العراق لسوء الحظ. ففي هذه الدول تجري الانتخابات الدورية بشكل منتظم وسلس وشفاف وتعلن فيها النتائج سريعاً لتحظى بقبول وثقة الجمهور والمتنافسين السياسيين فضلاً عن المجتمع الدولي. هذه هي الانتخابات المثالية التي تحدث في دول كثيرة اليوم، والوصول الى هذا المثال الانتخابي ليس مستحيلاً في السياق العراقي على المدى البعيد، او حتى المتوسط، لكنه باختصار ليس ممكناً على المدى القصير، في انتخابات ستجري بعد خمسة أشهر.

لا خلاف على ان هذه المطالب الاحتجاجية مشروعة وقانونية واخلاقية، لكن معظمها، بسبب صعوبة الوضع العراقي وتعقيده، غير قابلة للتحقيق قبل انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبلة. بين المطالب الاحتجاجية المشروعة، ثمة مطلب واحد بالإمكان تحقيقه سريعاً ويستحق إصراراً احتجاجياً عليه من خلال التحشيد الشعبي والسياسي والتظاهر في الشوارع ويتعلق بوقف استهداف الناشطين وتعقبهم من جانب القوى الميليشياوية والحزبية. فضمان بيئة آمنة الى حد كبير كي يمضي التنافس الانتخابي أمر ضروري لإجراء الانتخابات ويمكن تحقيقه إذا تركزت جهود قوى الاحتجاج عليه في المرحلة الراهنة.

لم يكن المثال الانتخابي السائد في الدول المستقرة متيسراً في كل الانتخابات العراقية بعد 2003، لأسباب معقدة ومتداخلة لا يمكن حل معظمها في خلال الاشهر المقبلة القليلة، الأبرز بينها هو قانون انتخابي مشوه باعتماد صيغة حسابية مبالغ فيها من نظام سانت ليغو ضَمن تكرار فوز الأحزاب الكبيرة والممولة جيداً في الانتخابات وهزيمة الأحزاب والحركات الصغيرة فضلاً عن الشخصيات المستقلة.

لحسن الحظ، أزيل هذا العائق الكبير من خلال تشريع قانون الانتخابات الجديد في نهاية العام الماضي. برغم بعض العيوب التي تشوب هذا القانون الانتخابي الجديد، فإنه، بمجمله، يمثل خطوة هائلة إلى الأمام نحو تفكيك سيطرة هذه الأحزاب على الدولة وفسح المجال لانتخابات أكثر تمثيلية واستيعاباً لتنوع المجتمع. لسوء الحظ، لم يحظ هذا القانون، وهو أحد انجازات حركة الاحتجاج، بالانتباه والاهتمام الكافيين من جانب قوى الاحتجاج، وتلاشت سريعاً أهميته البالغة في الاوساط الاحتجاجية على وقع الشكاوى العالية، بل العاطفية والمبالغ بها، في هذه الأوساط بخصوص قدرة المال السياسي وأدوات التزوير الحزبي على حسم الانتخابات لصالح ذات الأحزاب المتنفذة، حتى في ظل هذا القانون الجديد.

في الحقيقة، باستثناء تجربة قائمة دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، في انتخابات عام 2014، إذ ساعد الاستخدام الواسع للمال السياسي الذي اتبعته هذه القائمة المتحكمة بالدولة حينها (وعود بتوظيف ناخبين في الدولة ومنح سندات تمليك أراض وغيرها من وسائل التحشيد الانتخابي غير القانونية) على حصول هذه القائمة على نحو أقل من ثلث مقاعد البرلمان (95 مقعداً )، لم يسبق للمال السياسي ولا للتزوير الحزبي أن حسم أي انتخابات عراقية منذ 2005 لصالح أحد الأطراف المشاركة فيها، بل أقصى ما تحقق عبرهما هو كسب عدد محدود من المقاعد لم تغير كثيراً في الخارطة السياسية.

حتى فوز المالكي الانتخابي في عام 2014 لم يؤمن له منصب رئيس الوزراء بسبب الرفض الكبير، الشعبي والسياسي، للسياسات الكارثية التي اتبعها الرجل في سدة الحكم وقادت الى كارثة سقوط الموصل واقتراب الدولة من حافة الانهيار. لأسباب كثيرة متداخلة، مؤسساتية (لا قدرة للدولة على المزيد من التوظيف الواسع في ظل الازمة الاقتصادية الحالية) واقتصادية (شحة الموارد المالية الحزبية التي يمكن استخدامها كرشاوى انتخابية) وديموغرافية (ارتفاع عدد الناخبين الكبير مقارنة بعددهم في الانتخابات السابقة بحيث لا يمكن توفير موارد كافية لشراء أصواتهم) فضلاً عن بنية القانون الانتخابي الجديد بتقسيمه المقاعد البرلمانية مناطقياً والغائه صيغة سانت ليغو التي كانت تمنح لزعماء الأحزاب الأكثر حصولاً على الأصوات قوة انتخابية وسياسية استثنائية)، يكاد يكون مستحيلاً تكرار تجربة عام 2014 في الانتخابات المقبلة.

كان العامل الأهم من المال السياسي وأدوات التزوير الذي ساعد على إعادة انتخاب أحزاب هذه الطبقة السياسية بضع مرات هو الروح الهوياتية الفئوية، بأشكالها الطائفية والعرقية، التي هيمنت على وعي الجمهور وخياراته الانتخابية بعد 2003. يكمن الإنجاز الأهم لحركة احتجاج تشرين (أكتوبر) بالضبط هنا، أي من خلال تشكيل وعي شعبي واسع مختلف يقوم على الوطنية العراقية ومناهضة القوى السياسية المهيمنة التي رسخت الطائفية والعرقية في الحياة السياسية والمؤسساتية للدولة. كانت هذه الخسارة الأكبر للطبقة السياسية التي لن يعوضها عنها لا المال السياسي ولا أدوات التزوير الانتخابي.

من هنا تكمن ايضاً اهمية الاستثمار في الانتخابات المقبلة، فعبر صناديق الاقتراع وحدها يمكن تحويل هذا الوعي الجديد بالوطنية العراقية إلى مكاسب ووقائع سياسية ومؤسساتية لصالح حركة الاحتجاج وقيمها الجديدة الناهضة ويمكن من خلالها البدء الجدي بمشروع إصلاح الدولة والسياسة في البلد. وثمة مؤشرات مشجعة بخصوص استعداد شعبي لصناعة التغيير عبر صناديق الاقتراع، فنسب تجديد السجلات الانتخابية واستصدار البطاقات البايومترية للمشاركة في الانتخابات بلغت ارقاماً عالية بين من يحق لهم التصويت في الانتخابات (بحدود 70 بالمئة).

يعني هذا أن الجمهور راغب كثيراً بالمشاركة في الانتخابات المقبلة على عكس ما كان عليه الأمر في انتخابات 2018 إذ كانت نسبة المشاركة الحقيقية أقل من 20 بالمئة. ليس من الحكمة تضييع فرصة الاستعداد الشعبي هذه في صناعة التغيير سلمياً في بلد أنهكته الصراعات الدموية.

يبقى التحدي الأكبر لحركة الاحتجاج "التشرينية" داخلياً وليس خارجياً. خلاصته هو أن تتصالح "تشرين" مع السياسة وتتبناها بوصفها اداةً اساسية للتغيير من خلال الابتعاد عن شيطنة العمل السياسي السائدة في الكثير من الأوساط الاحتجاجية وعرض نموذج مختلف، اخلاقياً ومؤسساتياً، للسياسة يخدم المجتمع ويعيد ربطه بالدولة كي يخرج هذا البلد الى النور اخيراً، بعد النفق الشمولي البعثي والطائفي الإسلاموي الطويل. على الأكثر ستستغرق صناعة هذا النموذج السياسي الجديد ونجاحه الفعلي في الواقع بضع دورات انتخابية، لكن المهم الآن هو اتخاذ القرار بخوض هذا التحدي والاستعداد له كما يجب.

يتبع