في الحقبة البريّة لمسيرة القبيلة البشرية ظلّ الإنسان إنساناً، في علاقته بأخيه الإنسان، ولم ينتحل هوية الذئب إلّا في حقبة الواقع الحضري.

المتون المقدّسة تُرجِع العلّة إلى الإغواء. فالاغتراب الأول عن الحقيقة كان بسبب حوّاء. والإغتراب الثاني عن الحرية كان بسبب حوّاء أيضاً، لأن «بنات الناس» هنّ مَن استدرَجَ «أبناء الله» إلى الاستقرار في المكان بحُسنهنّ (سفر التكوين: 2-6)، لتنقسم القبيلة الإنسانية إلى شقّين: شقٌّ واصَلَ قدر ارتحاله في أرض الله الواسعة، وشقٌّ ثانٍ اختار الإستسلام للمكان، لتبدأ مسيرة اغترابٍ آخر، تلبيةً لنداء مخلوقٍ معجونٍ من طينة تلك الطبيعة، المسكونة بروح الأرض، فلا تعترف بغير التشبّث بتلابيب المكان ديناً: المرأة!.

فالأرض، بصفقة العهد مع المرأة، فتنةٌ. والمكان في هذه الأرض، أنثى. أنثى بحقّ الأمومة، كحجّة مستعارة من امرأةٍ تتغنّى بأمومة الوجود. من هنا اكتسب المكان ماهيّة الأنوثة ما ظلّ على وفائه لشَرَك الأرض، ليسري فيه التأنيث طبيعةً، ليصير فيه التأنيث سلطةً استطاعت أن تُوقِعَ إنسان الرحيل، المسكون بالحرية، في أسر الحصون المركّبة، الشبيهة ببُنْيَة الـ ماتروشكا، تلك الدمية الروسية الماكرة، التي تحتوي، في حجمها الأكبر، سلسلة من الدُّمَى الأصغر حجماً، لتقوم كل منها بابتلاع الأخرى، في حبكة استيعابية تحقق بها تماهياً اندماجيّاً مُريباً، ولكنّه يترجم حكمةً.

هذه الحكمة هي ما لفّق شهوة الفريق المنشقّ، ليحترف منازل الدوّامة الاغترابية التي قادته للقبول بقدَر السجين. السجين في بُعدَيه: الحرفيّ والنفسيّ.

العتبة الأولى، في سفر الانحراف، كانت التضحية بالمدى، والركون رهن واقعٍ محمّمٍ بسلسبيل. ولكن وجود سحرٍ كالمياه لا يطفئ الظمأ إلى الحرية المفقودة، ما لم يستعن الإنسان بأوتادٍ هي شرط الحضور في واقع أيّ مكان، كمسح الحدود لتعيين رسمٍ يبدو، في البداية، حجّة مقام، ولكنه لا يلبث أن يتحوّل كلمة سرٍّ في قدس أقداس الناموس الحضري وهي: المِلْكيّة.

فالإحساس بالانتماء إلى هذا الحيّز في المكان، هو ما يربّي نزعة الامتلاك في إنسانٍ حديث العهد بحيَل المكان، قبل أن يكتشف بطلنا حقيقة وهي أنه ليس هو مَن يمتلك هذا المكان في الواقع، ولكن المكان هو الذي يمتلكه منذ الآن فصاعداً.

هذه أول صفقة في مسيرة الإنسان الحضري لكي يكسب العالم دون أن يدري أنه، بهذا الكسب، سوف يخسر بالمقابل نفسه!

ثم تتوالى بعدها السجون. السجون التي تستدرج، لأنها توهم في البداية بأنها حصون. حصونٌ تبدأ بتلفيق عشٍّ من أعواد القشّ تُستنزل فيه صفة: البيت. بيتٌ هو بمثابة الحلقة في سلسلة الدمية الخبيثة التي تبتلع بنهَم، ولا تتوقف عن التقام المزيد ما لم تدرك الحدود القصوى في اغترابها، فتبتلع نفسها!

ولكن عشّ القشّ، أو الكوخ، مازال جرماً شقيّاً ملقى في البريّة، مما يستنزل فيه هوية المشاع القرينة للحرية، المعادية منذ الآن لروح الملكيّة التي تفترس وجدان المستوطن الجديد، فلا يملك إلاّ أن يهبّ للدفاع عن أملاكه، بإقامة كيان يعزله عن غول الحرية الذي يتهدّده!

هنا ينتصب في العراء الفسيح نصب حجارةٍ مستدير، يحيط الكوخ، مستعيراً اسم: السور!

ولكن الكوخ الذي أجار من الشموس، أو الرياح، أو الصقيع، ظلّ هشّاً في الحماية من أناسٍ لم يعودوا أُناساً، لم يعودوا قرناء، ولكنهم صاروا، بهذا الحجب، ذئاباً، توجّب عمل ما بالوسع لصدّهم عن الحدود، وإبعادهم عن واقع صاحب المكان. من هنا نشأت ضرورة استبدال كوخ القشّ بالبنيان الملفّق من الحجارة، أو بالكيان المشيّد من الطين، ليكون جديراً بهويّة البيت، بهويّة الحصن. الحصن داخل الحصن. ولكن التحصّن في جوف الحصن المركّب لا يعود يكفي للفرار من شبح الحرية، من شبح الآخر، المُريد، الذي يحترف الحرية، يطاردها دون أن يرتضي الركون إلى أرضٍ.

إنه الخطر مجسّداً.

ولا سبيل لدفع هذا الخطر عن مملكة مريد المكان سوى الجود بمزيدٍ من الحصون، وتدبير حيل أخرى لاستكمال أجناس الحجب. وهو لا يحتاج، للمضي قدماً في هذا الصراط، إلّا للحجّة. والحجّة دوماً في متناول المريد. وميلاد الذريّة كان حجر الزاوية في كيان الحجّة. هنا قام مفهوم الحُجرة في الجُحر. قيام جحور أخرى في الجُحر!

جحورٌ صيغت لإيواء الذريّة داخل الجحر الأكبر، جحرٌ باسم البيت، ولكنها كانت جحوراً لتحقيق عتبة أخرى في سبيل الفرار من الشبح. من شبح الآخر؟ من شبح الحرية؟ من شبح الأشباح؟ بلى!

فرارٌ من شبح الشبح. فرارٌ من الشبح الذي توهّم وجوده في الصحراء، وغاب عنه أنه فرارٌ من الشبح الذي يسكنه، لا الشبح الذي يسكن الصحراء!

فتعدّد الغرف داخل البيت هو تعدّد جحور الفرار داخل الجحر الأكبر.

ولكن صنوف العزل هذه لم تقتل في المستوطن الحنين للحضور في جنّات أخرى اغترب عنها من حيث ظنّ أنّه حلّ في رحابها، وهي الطبيعة. ففي حياته غابت شجيرة الرتم منذ فرّ من براريه. غابت شجرة الطلح، والسدر، والعشب السخيّ، المشفوع بالزهور، المتشبّث بحواف الوديان، المغمورة بالسيول. فكيف يستعيد هذه الجذور؟ كيف السبيل لاسترجاع الرموز التي سكنته عميقاً عميقاً زمن ترحاله في ربوعها، لتجد لها مستقرّاً في روحه، لتبقى وسواساً في منامه؟

استيقظ في أحد الأيام وانطلق ليستجلب من الخلاء غنيمةً. استجلب بذاراً، استزرعها في فناء بيته لتكون له عزاءً في ظلمات حجابه، علّها تفلح في تعويض فردوسه الضائع!

في هذا المناخ الذي يتدفّق فيه النبع بترياق السلسبيل، فتنمو الأشجار، وتزهر الأعشاب، وتكثر الثمار، ليتحوّل المكان واحةً فاتنةً، تجذب إلى حضيضها أفواج العابرين المتعبين، المدفوعين بإغواء الرخاء، وضعف النفوس، للمقام إلى جوار سلَفهم المستوطن، ليُحاكوه في التنقّل في منازل المعراج، فيضطرّوا بإلهامٍ من هاجس الخوف إلى سَنّ القوانين، التي تنظّم علاقة الإنسان في مقامه إلى جوار إنسانٍ لم يعد أخاً بالطبع، ولكنه مجرّد جار، في حين فرض واقع المقام وضع تدبيرٍ يجير الواحة من بطش القرين القديم، الذي لم يعد شريكاً، ولكنه انقلب بتتابع الأيام، عدوّاً مبيناً، ممّا استدعى تجنيد العسس للدفاع عن حدود المستوطنة، التي ستنتحل منذ الآن إسماً آخر هو: الوطن!

المستوطن سيسوّق الدفاع عن عبوديته، كحُجّة للدفاع عن الوطن! فالملكية، في صفقة الاستيطان، هي رأسمال السقطة الثانية، بعد سقطة الخروج من فردوس الروح، لأنها أيضاً خروجٌ من فردوسٍ مسكونٍ بالحريّة، كما هو الحال مع الترحال.