خلال عامين خاضت إسرائيل أربع انتخابات تشريعية. جرت الأخيرة الأسبوع الماضي (23 مارس)، ويروج حديث عن انتخابات خامسة إذا تعذرت حياكة ائتلاف سياسي لتشكيل حكومة مستقرة. ولئن يهتم ذوو الاختصاص الفلسطينيون والعرب، فقط، بهذه المناسبات، فذلك أن تلك الانتخابات باتت شأنا محلياً جوانياً قلما حظي بانشغال العامة في المحيط.

أصحاب الشأن أنفسهم في إسرائيل يخوضون الانتخابات وفق أجندات وعناوين بيتية. يتسابق المتسابقون على خطب ودّ الناخبين من خلال إطلاق وعود تنموية اقتصادية "بليدة"، شأن الحملات الانتخابية التي تخاض في بلدان "عادية"، ذلك أن مواقف الجميع في قضايا الاستيطان والعلاقة مع الفلسطينيين واحدة لا يلاحظ الناخب فيها أي محفز سلبي أو إيجابي.

صحيح أن الشأن الأمني، وبالتالي ارتباطه بموقع إسرائيل في المنطقة والعالم، ما زال هاجسا للناخب والمُنتخب، إلا أن الأمر ليس مادة تنافس تذكر طالما أن كافة التيارات السياسية، باستثناء القوى العربية، مجمعة على خطاب واحد في الوعد بالدفاع عن أمن البلد بوسائل القوة القصوى، ومجمعة أيضا، على استبعاد أي مخيلة تتحدث عن عملية سياسية أو مشروع سلم مع الفلسطينيين، ذلك أن تلك البضاعة، التي انتعشت في عقود سابقة (أثمرت "كامب دايفيد" و "اسلو" و "وادي عربية")، لا تجد سوقا لها لدى الكتلة الناخبة اليهودية في العقود الأخيرة.

واللافت أن الاستحقاقات الانتخابية المتعددة المتتالية لا تؤسس لأي تحول في العقلية السياسية الحاكمة في إسرائيل، يتماشى، على الأقل، مع تحولات المنطقة منذ "ربيعها" المزعوم، أو يستبق تلك المقبلة المتوقعة في الشرق الأوسط.

تبدو إسرائيل جامدة في عقائدها، فيما العالم شديد الدينامية حولها. تراقب التحولات من موقعها الثابت، ومن ذلك الثبات تتعامل مع المتحول. وفق تلك الآلية تقارب علاقتها مع الإدارات المتعاقبة في واشنطن، وتدير يوميات حركتها حيال المستجد في سوريا ولبنان، وتواجه في داخل إيران وداخل ميادين امتداداتها في المنطقة كل الأخطار التي تعتبرها تهديدا لأمنها الاستراتيجي. يجري الأمر برعاية وتفهم وتواطؤ خارجي شبه شامل، لم تحظ به إسرائيل في عقود سابقة، حتى في مواسم حروبها الكبرى مع العرب.

ولئن لا تهمل مؤتمرات الأمن الإسرائيلية، لا سيما ذلك الشهير السنوي في هرتسيليا، ما يطلق عليه بـ "القنبلة الديمغرافية الفلسطينية"، إلا أن الاستحقاقات الانتخابية خلال العامين الأخيرين كشفت عن وقائع يجدر تأملهما، وإن كانت ليست بالضرورة نهائية في صيرورتها.

الواقع الأول، يتعلق بحقيقة أن الكتلة العربية الناخبة والبرلمانية (حتى بانقسامها) باتت رقما صعباً أو مربكاً داخل المشهد السياسي الإسرائيلي، لناحية الإمساك بمفاتيح أساسية في تعطيل أو تسهيل تشكيل حكومة في إسرائيل.

الواقع الثاني، أن المنظومة السياسية الإسرائيلية، بجل تياراتها الأساسية، ما زالت، وحتى يثبت العكس، عازمة وقادرة على منع واستبعاد المكون العربي من أن يكون شريكا في أي تشكيلة حكومية، حتى لو أدى الأمر إلى خوض انتخابات أخرى متعددة دون أي حرج. وربما مفاوضات الليكود مع "القائمة العربية الموحدة" بقيادة منصور عباس (صاحبة أكبر تمثيل عربي في الانتخابات) ستشكل تطورا، يُدرس في حينه، إذا ما أثمرت مآلاته.

الواقع الثالث، وهذا ظهر جليا خلال الاستحقاق الانتخابي الأخير، يكشف أن الحالة العربية الداخلية، التي يرفضها العقل السياسي الإسرائيلي، هي ظاهرة متعددة متباينة الأهداف والتكتيكات والخيارات، بحيث تبدو وحدتها، التي ظهرت في الاستحقاقات الانتخابية الثلاث السابقة من خلال "القائمة المشتركة"، استثناء يسهل إرجاعه إلى عادية انقسامه في أول مناسبة تتضارب داخلها مصالح الفرقاء. كما بدا أن الحالة العربية باتت "ملحقة باليسار الإسرائيلي ومؤخرا باليمين"، وفق تعبير الأكاديمي الفلسطينيين البروفسور أسعد غانم.

الواقع الرابع، يلفت إلى أن إسرائيل تخوض انتخاباتها المتتالية وفق مفردات وتعابير وبرامج لا تربكها أي ديناميات فلسطينية مقلقة في الضفة الغربية وقطاع غزة. حتى أن الفلسطينيين أنفسهم باتوا يتعاملون مع الانتخابات الإسرائيلية بصفتها حدثا يساهمون بالتعليق عليه بالدراسة والتحليل، ولا يعلقون على نتائجها أي آمال لإحداث تغيير داخل "مسلمة" الشلل والجمود في يوميات قضيتهم. كما أنهم يئسوا، ربما، من استخدام الحدث مناسبة لافتعال ضجيج، سياسي أو ميداني، بإمكانه التسبب بتأثير ما على مزاج الناخبين.

الواقع الخامس، يؤكد أن مسألة اتفاقات السلم التي عقدتها إسرائيل مع أربع دول عربية، على أهميتها، بدت شأنا يسوق له المرشح بنيامين نتنياهو بصفته إنجازا شخصيا يعوّل عليه لإحداث فارق انتخابي نوعي. بيد أن نتائج نتنياهو تدل أيضا أن الإنجاز محدود التأثير ولا يقلب موازين القوى على النحو الذي كان نتنياهو يتخيله ويبالغ في التعويل عليه.

وما يمكن المغامرة في استنتاجه هو أن أزمة الحكم في إسرائيل لا تعود بالضرورة إلى نظامها الانتخابي والسياسي أو إلى تشظي مكوناتها الفسيفسيائية الحزبية. المعضلة تكمن في ظاهرة الإجماع وليس في ظاهرة الانقسام.

لا يجد الناخب اليهودي في إسرائيل فروقا هوياتية كبرى تدفعه للاندفاع إلى تعظيم شأن عائلة سياسية على حساب أخرى. كما أن الكتلة الناخبة، التي يتم تخويفها من أخطار إيران وامتداداتها اللبنانية السورية، واثقة من ذلك الإجماع بين كل المكونات المتنافسة في مسائل الدفاع عن الأمن والوجود. ناهيك عن أن غياب التحدي الفلسطيني الكبير، في بعديه داخل أراضي 48 وخارجها، معطوفاً على تبدل أولويات المحيط العربي، يجعل من الانتخابات في إسرائيل نميمة لا تنشغل في جلبتها إلا بمستقبل نتنياهو ومصيره.