في الثقافة السياسية العربية، يحتل مفهوم "المقاومة" موقعاً مركزياً، إذ يحاط هذا المفهوم بقدر هائل من التبجيل في الحيز العام من دون إخضاعه لنقاش عقلاني لتعريفه على نحو دقيق وتحديد مقدار انطباقه في السياقات الكثيرة التي يُستدعى فيها لتبرير مواقف سياسية وثقافية وشخصية مختلفة.

 فمن عمليات مسلحة تقوم بها دول ومنظمات وأشخاص ضد خصوم متنوعين إلى دعاوى "المقاومة السلمية" و"المقاومة الشريفة" و"فصائل المقاومة"  و"المقاومة الثقافية" و"مقاومة التطبيع" و"الإعلام المُقاوم" و"الفن المقاوم" و"والادب المقاوم،" يتسع مفهوم المقاومة ويتضخم حتى يكاد يشمل كل ما يفعله المرء تقريباً في الحياة، من علبة الحليب التي يستهلكها والملابس التي يرتديها والبرنامج التلفزيوني الذي يشاهده والكتاب الذي يقرأه والمشاعر التي يتبناها، واحياناً حتى البلاد التي يزورها.

يحمي هذا التضخم الحياتي المضطرد لمفهوم المقاومة أسوارٌ نفسية عالية من الخطابة الإيديولوجية المستمرة، التي توظف خليطاً انتقائياً وملتبساً من نوازع أخلاقية ودينية وقانونية ووطنية، إذ تُقرن هذه الخطابة عدم المساهمة في أفعال المقاومة الكثيرة بأنه فعل خيانة يستحق العقوبة القانونية في أسوأ الأحوال، والمقاطعة الاجتماعية في أحسنها.

الاستخدام الاصطلاحي الأقدم للمقاومة علمي وليس سياسياً، إذ يصف في الفيزياء المقاومة التي يواجهها التيار الكهربائي في مروره بالمعادن الموصلة للتيار. أما "المقاومة"، كفعل شعبي مسلح ضد قوة أجنبية محتلة، فهو استخدام حديث نسبياً في اللغة السياسية ويرتبط بتجارب حركات المقاومة للاحتلال الألماني النازي لدول اوروبية  في أثناء الحرب العالمية الثانية، وعلى الأخص تجربة المقاومة الفرنسية التي أصبحت أساسية ًفيما بعد في تعريف هذا المصطلح وانتشاره. مع ذلك، فهناك قبل هذا التاريخ إشارات متناثرة، متخصصة ومعزولة عموماً، لهذا المعنى السياسي للمصطلح، يعود بعضها الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بعد الحرب العالمية الثانية وبدء تفكك الهيمنة الإستعمارية الغربية في العالم وبروز حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا  التي لعبت دوراً مهماً في عملية التفكيك هذه، برز مصطلح المقاومة في وصف الجهود الشعبية  "التلقائية" التي قامت عليها حركات التحرر هذه.

كان اغراء المصطلح يكمن بالضبط في افتراضه التلقائية الشعبية المعبرة عن حس وطني جامع لأفراد كانوا متفرقين وضعفاء، قبل اشتراكهم في المقاومة، وأدى اتحادهم عبرها إلى منحهم قوةً معنوية هائلة قادتهم، بعد تضحيات كبيرة، إلى هزيمة دول راسخة، أقوى منهم مادياً وأفضل تنظيمياً. كان هذا هو جوهر خطاب المقاومة ومكمن قوتها: المواجهة الاخلاقية والمادية بين الإيمان الوطني "النقي" والشراسة الاستعمارية الغربية حيث يتغلب صدق الإيمان في آخر المطاف على قوة المادة. بمعنى آخر، كانت المواجهات الكثيرة في بلدان مختلفة من "العالم الثالث" الخاضعة للهيمنة الاستعمارية الغربية مظاهر محلية للصراع الكوني الدائم بين قوى الخير وقوى الشر. وبغض النظر عن الدقة التاريخية في مثل هذا التصوير الاختزالي للمواجهة، شكلت هذه الثنائية الأخلاقية البسيطة أداة تعبئة معنوية هائلة في الثقافة السياسية للبلدان التي مرت بتجربة الهيمنة الغربية هذه.

في العالم العربي، ارتبط مفهوم المقاومة بالنضال الفلسطيني ضد إسرائيل الذي اتخذ طابعا تنظيميا مسلحاً ورسمياً  بعد إعلان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 1964، وتشكيل حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في بداية العام التالي، 1965، التي قررت اتخاذ "الكفاح المسلح" سبيلاً لتحرير فلسطين، ليترسخ عبره مفهوم المقاومة في الخطاب السياسي والثقافي العربي، وليجري، عبره ايضاً، تفسير كل العمل الفلسطيني السياسي والمسلح ضد النشاط الاستيطاني اليهودي في فلسطين على امتداد عقود الانتداب البريطاني في فلسطين قبل إعلان تأسيس دولة إسرائيل في 1948، اي حتى قبل بروز مصطلح المقاومة نفسه. أصبحت "المقاومة" هي الإطار المرجعي لتنظيم الوعي الفلسطيني بالذات والتأريخ وتأكيد الالتزام الأخلاقي والسياسي العربي نحو هذه الذات المقهورة. لكن اهمية المقاومة الفلسطينية حينها كانت تكمن في اعتبارها، ضمن المخيلة الشعبية والثورية العربية، الضدَ النوعي الشعبي للفشل الرسمي العربي في استعادة فلسطين، فمن خلال "العمل الفدائي" الذي كان العنوان الأبرز للمقاومة الفلسطينية، يتطوع المرء بالتضحية بنفسه من أجل تحرير قادم أكيد للوطن، فيما تظل الزعامات الرسمية العربية غارقة في أنانية السلطة وصراعاتها المصلحية الضيقة كنتيجة لانعدام أفقها الأخلاقي والقومي. على مدى بضعة عقود، هيمنت هذه النظرة الأخلاقية التبسيطية التي اختصرت كل مشاكل العالم العربي المعقدة والمختلفة، بمركزية القضية الفلسطينية، إلى أن بدأت هذه المركزية، ومعها خطاب المقاومة، تتفكك تدريجياً منذ التسعينات بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام في نهاية 1991برعاية أميركية وبمشاركة وفود رسمية إسرائيلية ومصرية وسورية ووفد مشترك أردني-فلسطيني، وصولاً إلى اتفاقية أوسلو الأولى في 1993وأوسلو الثانية في 1995، بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. أسست هاتان الاتفاقيتان للاعتراف المتبادل بين الطرفين وتعاونهما المرحلي وتعهدهما بالعمل معاً لحل المشاكل العالقة بينهما في خلال فترة  خمسة أعوام.

برغم فشل هذا الجهد الدبلوماسي بين الطرفين على مدى التسعينات لأسباب معقدة ومتداخلة، فإنه أدخل، على مدى سنوات، في القاموس السياسي العربي مصطلحات جديدة عن السلام والتعاون والتعايش بعيدة جداً عن خطاب المقاومة الذي يقوم على الصراع والمواجهة. تمأسس هذا الفهم الجديد للصراع، بوصفه خلافاً صعباً يمكن حله بالطرق السياسية، وليس بالمواجهات العسكرية، في إقرار رسمي عربي بأن التفاوض، وليس الحرب، هو طريق السلام، عبر تبني الدول العربية في مؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت في آذار/مارس 2002 مبادرة سلام اعتبرت جريئة في وقتها، عُرفت بالأرض مقابل السلام. بموجب هذه المبادرة وافقت الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل مقابل انسحاب الأخيرة من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران  عام 1967. لم تجد هذه المبادرة طريقها للتحقق، ودخلت المنطقة بعدها في نوع جديد من الصراعات بعد بروز التنظيمات الارهابية المسلحة بأفكار الإسلام السياسي التي استفادت كثيراً من تفاعلات الاجتياح الاميركي للعراق في  2003 الذي أطاح بنظام صدام حسين، من دون نجاحه في تشكيل نظام سياسي مستقر بديل.

من ثنايا الفشل في إيجاد حل معقول ومنصف للقضية الفلسطينية من جهة، وصعود تنظيمات الإسلام السياسي المتطرف ذات الهوية الإسلاموية العابرة للدول، بتهديدها الجدي لمفهوم الدولة الوطنية في المنطقة، من جهة اخرى، برز مشروع مقاومة جديد يزاوج، على نحو غير متماسك، بين دعاوى دينية وأخرى سياسية، تتزعمه إيران، يؤسس لثنائية تبسيطية جديدة وخطرة عبر صراع شديد بين الغرب المادي بزعامة "الشيطان الأكبر" الأميركي، و"الشرق الإسلامي" المُهدد، في سردية هذا الصراع، بأغلى وأهم ما لديه: هويته الدينية. استعار خطاب المقاومة الجديد هذا بعض مواضيع وأدوات خطاب المقاومة القديم، إذ تحضر فلسطين في هذا الخطاب بوصفها علامة كبرى لظلامة إسلامية اقترفها الغرب المتحالف مع إسرائيل، مغتصبة أرض الفلسطينيين. لكن المظالم الفلسطينية ليست جوهر هذا الصراع، كما في خطاب المقاومة القديم، بل هي إحدى مواضيعه فقط، وليست قضيته المركزية. جوهر الصراع هنا، وقضيته المركزية، هو الحفاظ على نموذج "الجمهورية الاسلامية" ضد خصومها الكثيرين والاقوياء، بوصفها "مركزَ المقاومة الاسلامي" ضد "الاستكبار العالمي" وفلسطين، هي ساحة واحدة من ساحات المواجهة الكثيرة المرتبطة بهذا الصراع، كما هي الحال في لبنان والعراق وسورية واليمن وأفغانستان.

تتجسد خطورة خطاب المقاومة الجديد، ليس فقط في اعادة تشكيله فكرة المقاومة نفسها كرد فعل شعبي ضد أفعال الإحتلال العسكري الأجنبي وتحويلها إلى جبهة سياسية وظيفتها الاساسية الوقوف ضد خصوم الجمهورية الاسلامية، بل ايضا في تقويضه مفهوم السيادة الوطنية للدول. فالمقاومة، بوصفها سياسةً معلنة للدولة الايرانية، تتعامل بازدواجية واضحة مع  الحدود والسياقات القانونية التي تدير الدول. من هنا، يتعامل الجانب الرسمي من الدولة الايرانية مع نظرائه في الدول الأخرى من خلال الاستدعاء التقليدي لمفاهيم السيادة والإحترام المتبادل بين الدول، لكن  الجانب "المقاوم" من الدولة الايرانية نفسها يستنفر بحرية وسهولة المفاهيم الثورية للمقاومة التي تطيح بمعنى السيادة الوطنية، عندما لا تتسق الأطر الرسمية والسيادية مع المصالح الايرانية. وهنا بالضبط تكمن مشكلة ايران في العراق ومعه.

 - يتبع -