"أنتم تهاجمون الدولة العثمانية فقط بسبب الخلافات الحالية بين دولكم والنظام التركي الحاكم، ولو تصالحت دولكم مع تركيا لوجدناكم تعظمون الحكم العثماني وتتحدثون عن إيجابياته" هذه هي العبارة النمطية التي يستخدمها أتباع تيار العثمانيين الجدد ومن يسيرون على دربهم للتعليق على كل انتقاد للدولة العثمانية، أو إبراز لسلبيات حكمها.

فلننظر إذن في نصيب هذه التهمة الغريبة من الصحة أو الخطأ..

بدايةً، تُعد النظرة السلبية العربية للحكم العثماني ومساوئه أقدمَ من المشكلات التي أثارتها السياسة العدوانية لنظام أردوغان. فلنقرأ مثلًا كتابات المؤرخ اللبناني محمد جميل بيهم (1887م-1978م) عن مظالم وفظائع الحكم العثماني، أو السلبيات التي ذكرها الدكتور صلاح هريدي في كتابه "دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر" الصادر سنة 2005م، أو كتاب "مصر في القرن الثامن عشر" لمحمود الشرقاوي والصادر سنة 1955م، أو "الدولة العثمانية.. قراءة جديدة لعوامل الانحطاط" الصادر سنة 1994م للدكتور قيس جواد العزاوي.. بل إن كاتبًا قديمًا عثماني الهوى مثل محمد فريد بك المحامي قد ذكر الكثير من مساوئ الدولة العثمانية في كتابه "تاريخ الدولة العلية العثمانية.. وهناك كاتبٌ معاصرٌ من المتحمسين لهذه الدولة والمدافعين عنها هو الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش قد ذكر مثلها في كتابه "العثمانيون".. إذن فما يُذكَر من سلبيات لم "نكتشفه" فجأة وإنما هو حديث قديم!

وفي الدراما العربية، لطالما قدم العثماني كنموذج للظلم والغطرسة والجلافة.. كما في مسلسل "أخوة التراب" من إنتاج العام 1996م أو مسلسل "الحب في عصر الجفاف" من إنتاج سنة 1989م .. بل إن الحديث عن "رعاية العثمانيين للجهل" قد ورد بشكل واضح في مسلسل "رفاعة الطهطاوي" الصادرِ سنة 1987م وأغنية مقدمته، التي تمثل حوارًا بين الباشا التركي وشاب مصري، إذ يقول المصري "ليه بس يا باش تركي تحرمنا نور المعرفة" فيجيبه الباشا: "لأن من يتعلم يفهم ويتكلم ويخرج على التقاليد ونحن لا نريد تعليما نريد بَلَم!"، وفي مسلسل "الإمام محمد عبده" من إنتاج الثمانينيات (لم يتم تحديد تاريخه للأسف) تبدأ الأحداث بجنود عثمانيين يعتدون على مجموعة من الفلاحين..

هذا إلى جانب كون الصورة الذهنية الشعبية لـ"العثماني" تتمثل في أنه باشا مكتظ، أحمر الوجه، فخم الثياب، له شارب عملاق، يمتطي جوادًا مطهمًا، ويمسك بكرباج يهوي به على ظهور الفلاحين البؤساء!

إذن فأي تناول سلبي للعثمانيين وحكمهم كان وليد الخلافات الأخيرة!

وأما عن اتهام المنتقدين للحكم العثماني بأنهم "لو تصالحت دولهم مع تركيا فسيسبحون بحمد الدولة العثمانية" فالرد عليه بسيط: مصر تربطها علاقات طيبة بكل من بريطانيا وفرنسا، وتلتزم باتفاقية للسلام مع دولة إسرائيل. ومع ذلك فإن العلاقات الطيبة مع بريطانيا لم تمنع صدور الكثير من الكتب التي تتحدث عن الاحتلال البريطاني، وتذكر فظائعه كمذابح الاحتلال بحق ثوار 1919، أو كواقعة دنشواي، وتُمَجِد المقاومة المصرية منذ عرابي حتى نهاية آخر وجود بريطاني في مصر سنة 1956م، كما لم تمنعها من إنتاج أعمال درامية تتحدث عن تلك الفترة كمسلسل "أوراق مصرية" أو "طائر في العنق" أو "جمهورية زِفتَى"، وحتى فيلم 1919 قيد الإنتاج حاليًا من تأليف الكاتب والسيناريست أحمد مراد..
والعلاقات الطيبة مع فرنسا لم تمنع صدور كتب عن مقاومة المصريين للاحتلال الفرنسي خلال حملة لويس التاسع أو حملة نابوليون، ولا عن دور فرنسا في الصراع الاستعماري على مصر.. ولم تمنع انتفاضة المثقفين غضبًا في العام 1996 عندما اقترح البعض الاحتفال بذكرى الحملة الفرنسية على مصر باعتبارها "بداية التنوير"، وفي الوقت نفسه، كان مسلسل "الأبطال" يُعرَض بجزءيه في العامين 1996 و 1998 عن الحملة الفرنسية ومقاومة المصريين للاحتلال الفرنسي، ومن عاصروه يذكرون قسوة ولدغ كلمات الشاعر عبد السلام أمين في أغنية المقدمة وهو يقول: "شكرًا لمن فكوا رموزي مع إنهم نهبوا كنوزي يا وصف مصر إذكر وإكتب نهب الفرنسي الأراجوزي"! بل لم تمنع غضب الكثيرين أخيرا من إعلان لإحدى الجامعات ظهرت فيه شخصية نابوليون تتحدث عن الحملة الفرنسية بشكل احتفالي مما دفع الجامعة لإيقاف الإعلان والاعتذار للجمهور!

واتفاقية السلام مع دولة إسرائيل، ووجود تمثيل دبلوماسي متبادَل، لم يمنعا من احتفال مصر ببطولات جنودنا في حربي الاستنزاف وأكتوبر 1973م، فصدرت عشرات الكتب عن الحربين خاصة لمؤرخين كبار كالأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ جمال حمّاد وغيرهما، إضافة إلى كتب الجاسوسية لكل من صالح مرسي ودكتور نبيل فاروق، وكذلك أُنتِجَت الكثير من الأعمال الدرامية منها الذي يتناول قصصًا مخابراتية ك"دموع في عيون وقحة" و"رأفت الهجان" و"بئر الخيانة" و"السقوط في بئر سبع" و"أولاد العم" ومنها الحربي كـ"الطريق إلى إيلات" و"الممر"...

إذن فالعلاقات السياسية الطيبة لم تجعلنا نمتنع من عرض قراءتنا الوطنية للتاريخ، فلماذا يختلف الأمر لو تمخض المستقبل عن تحسن للعلاقات مع الدولة التركية؟

الحقيقة أن موقف هؤلاء القوم يشبه تلك النكتة عن الرجل الذي قيل له: "زوجتك تخونك مع فلان النجار"، فأجاب بغضب "هو ليس بنجار ولا هو يفهم في النجارة!" عوضًا عن أن يدافع عن عرض زوجته مما نُسِبَ لها من سوء.. فهم يحاولون الهرب من الرد على الانتقادات الموجهة لدولة يتعصبون لها بأن يطعنوا مباشرة في أصحاب النقد.. ومن أبجديات النقاش والمجادلة هي أنك حين تختلف مع البعض في فكرة أو وجهة نظر اجعلْ تركيز نقدك على فكرته ووجهة نظره وليس على شخصه..
ثم إنهم- ويا للمهزلة- يتهمون غيرهم بما هو فيهم- فهم يوالون بشكل صريح النظام التركي إلى حد وضع أعلام تركيا وصور أردوغان على صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم في الوقت نفسه يتهمون من ينتقد العثمانيين بأنه "ينافق أو يجامل حكومة بلاده".. وبمناسبة هذه التهمة فإن لي سؤالا مُحيِّرا: لماذا يفسرون دائمًا اتفاق وجهة نظر الكاتب وتلك الخاصة بنظام دولته أنه نفاق من الأول لهذا الأخير؟ لماذا لا يكون ذلك-ببساطة-اقتناعًا؟ أم أن حرية تكوين القناعات عندهم لا تكون إلا فيما يوافقهم من أفكار وتوجهات؟
ولكن من قال إن هؤلاء-أعني أتباع العثمانيين الجدد- يريدون نقاشًا؟ هم يريدون إثارة الضجيج ليشوشوا على الحقائق ويعموا الأعين عن هشاشة حججهم.. فالنصيحة إذن لمن يرى منهم ذلك ألا يندفع وألا يُكون وجهة نظر إلا بعد أن ينقي الأجواء من تشويشهم، أو كما يقول الشاعر:
" سوف ترى إذا انجلى الغبار ** أفرس تحتك أم حمار".