تابعت كما هائلا من الكتابات والتعليقات والتحليلات على وسائل الإعلام المختلفة في الأيام الماضية تدور كلها حول ذكرى مرور عقد من الزمن على ما عرف إعلاميا بوصف "الربيع العربي".

كانت الأحداث التي بدأت من تونس في آخر أيام 2010 ثم في مصر بعدها، حيث خرجت الاحتجاجات الجماهيرية على السلطة، ملء السمع والبصر ليس في المنطقة وحدها بل في العالم أجمع. ولم تنته آثار تلك الاحتجاجات في دول أخرى كما هو الحال في سوريا وليبيا، التي ما زالت في حالة حرب داخلية تهدد ما تبقى من كيان الدولة فيها.

وبينما استعادت مصر قدرا معقولا من عافيتها، تظل تونس في وضع هش من حيث سلطة الدولة واستقرار الحكم فيها، وهو ما ينعكس أيضا على الوضع الاقتصادي الهش في البلاد. ورغم مرور 10 سنوات على تلك الاحتجاجات التي أدت إلى تغييرات ما زالت تلك البلدان تشهد تبعاتها حتى الآن، ما زال الخلاف حولها محتدما سواء في البلاد التي مرت بها أو في المنطقة أو في العالم.

وتكاد لا تجد وسيلة إعلام غربية رئيسية لم تفرد مساحة واسعة لمراجعة تلك الأحداث ودلالاتها بالتحليل والتعليق والاستنتاج. حتى تسمية تلك الأحداث الهائلة التي أدت إلى تغييرات كبيرة ليس هناك اتفاق عليها: هل هي ثورة أم انتفاضة أم احتجاجات.. الخ.

وينسحب ذلك إلى الموقف من السلطة والدولة في تلك البلدان، طبعا كل حسب توجهه وقناعاته. هذه الخلافات قائمة منذ وقت الأحداث نفسها، وفي كتاب لي صدر بعد عام من بدايتها عونته "التغيير العربي"، باعتباره وصفا محايدا لأحداث ليست بثورة وليست أيضا مجرد مظاهرات احتجاجية فئوية.

أتصور أن ما غاب عن كل تلك المراجعات، خاصة في الغرب، هو المغالاة في الوصف وأحيانا الممالأة لتيار متطرف في المنطقة ركب تلك الاحتجاجات ووصل للسلطة في بعض الدول وأدخل البعض الآخر في حروب أهلية أفرغت إرهابا ما زلنا نعاني من نشاطه التدميري حتى الآن.

لم تكن ملايين الناس التي احتجت في 2010 تستهدف هدم بنية الدولة، وانما كانت حركتها اعتراضا قويا على ممارسات للسلطة تراكمت عبر عقود أفشت الفساد وسيدت القمع وضيقت ظروف المعيشة. لكن التيار المتطرف، الممثل بتنظيم الإخوان، باعتباره جماعة منظمة جدا تختلف عن الحراك الجماهيري العفوي، استغل تلك الاحتجاجات ليس للوصول للسلطة فحسب وإنما بغرض تدمير الدولة (أي مؤسسات السلطة) سعيا نحو الهدف الأساسي للتنظيم وهو استبدال الدول بما يسمونه "الأمة".

ولعل الإخوان هم أكثر من يعتبر ما جرى "ثورة"، لأن هدفهم كان تغييرا جذريا يقضي على فكرة الدولة تماما.

مع تغيير الحكم في تونس ومصر، وصل الإخوان إلى السلطة، مشاركة في تونس واستحواذا في مصر، لكن ممارسات الهيمنة والاستحواذ واستعجالهم التغيير الجذري للدولة في مصر جعل الناس تطيح بهم في احتجاجات مماثلة لما حدث قبل 3 سنوات.

أما في تونس فاستمر الإخوان، ممثلون بحركة النهضة، ضمن الحكم مع محاولات لأن تكون لهم الغلبة.

لذا ربما تكون مصر هي أكثر من خرج من تلك الفترة بالحفاظ على الدولة وسلطاتها، رغم حدوث تغييرات، وفي وضع اقتصادي أفضل نسبيا. لكن ما حدث في سوريا مثلا، من احتجاجات سلمية لم تستمر سوى أسابيع قليلة ليؤدي التدخل الخارجي وإشعال الجماعات المتطرفة (وكلها خرجت من عباءة الإخوان) حربا أهلية إلى محاولة تدمير البلد، ما زال مستمرا حتى الآن.

كذلك الوضع في ليبيا، التي انهارت الدولة فيها بسرعة لعدم وجود مؤسسات سلطة قوية، وهذا ما جعلها الآن بيئة حاضنة لبقايا الإرهابيين الذين انتقلوا إليها من سوريا والعراق وغيرهما. حتى في تونس ومصر، لم تتوقف العمليات الإرهابية لكن القوة النسبية للدولة حالت دون تحول الوضع إلى ما هو عليه في سوريا وليبيا.

ربما تكون مصر النموذج الأمثل لحسم هذا الصراع بين الدولة والثورة (وأعني بها هنا التغيير الجذري الذي تسعى له تيارات التطرف ممثلة بالإخوان)، لذا كان نصيب مصر من التحليلات والتعليقات، خاصة الغربية، في الذكرى العاشرة لتلك الأحداث هو الأكبر.

والسمة الغالبة على تلك الكتابات والأحاديث هي الاستهداف المبطن لمحاولة استعادة الإخوان دورا في الحكم في المنطقة. ويقود الليبراليون واليساريون في الغرب توجها يستند إلى فصل مغالط بين تلك التنظيمات عن الجماعات الإرهابية، في محاولة لترسيخ الاعتقاد بوجود "تطرف معتدل" و"تطرف إرهابي".

ومع أن هذا النهج ليس بجديد، بل يرجع إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي حين كاد التيار المتطرف أن يصل إلى السلطة في الجزائر نتيجة الانتخابات فأطاحه الجيش وقتها، فإنه الآن يأتي في وقت يشهد به الغرب تحولات سياسية في مواجهة تيارات يمينية متطرفة هناك، والمفارقة المثيرة أن الليبراليين واليساريين في الغرب الذين يعارضون التطرف اليميني في بلادهم يطالبون بفرضه على بلداننا!