سوف يفاجئنا أن نعلم حقيقة مصطلح "رو"، أو في بقية تجلّياته في "هرو"، أو ORO، المسكون بذخيرة مفهومية ثريّة جداً، سيّما في حال استجوبنا فيه طائفة تجليات أخرى، نتجت عنها مفاهيم فلسفية في غاية الخطورة، كما في حال منطق الـ ZERO الدالّ على الصفر، الذي نصّبته الفلسفات ركيزة وجودية أولى، برغم حُجّة الفحوى التي تستنزل في حقّه اغتراباً غيبيّاً عن واقعٍ عدميٍّ يتغنّى بـ اللاشيء كمبدأ انبثق منه كل شيء.

وهو ما لا نفلح في الاعتراف به ما لم نستخدم في حقّه تميمة سحرية تتحفنا بها اللغة الأولى.

فالمصطلح تركيبٌ ملفّق من كلمتين: تسكن الأولى حرف الـ Zالدال في لغة التكوين على "الكيان"، بإضافة حرف صائت للمنطوق بحيث يغدو ZA، أو ZEعلى حدّ سواء، هذا في حين تطالعنا الـ RO (رو)، بثروتها المترنّمة بسلطان الزمن الضائع، اللامحدود في ضياعه، وذلك لعدم إمكان تحديد هويّة لأزليّته، ليبقى عجزنا في استكشاف لغز ماضيه، علّة حكمنا عليه كمفهومٍ مجهول، ولكن مجهوليّته تظلّ شبحاً، بل جلّاداً، مسلّطاً على واقع وجودٍ نحاول عبثاً أن نحدّد لميلاده تاريخاً، لأن التاريخ، لا الزمن، هو ملاذنا في كل ما يتعلّق بمعجزة وجودنا، فلم يجد الدهاة الأوائل ما يعبّرون به على سرّ الخلق سوى هذه الترجمة الغامضة: "كيان القدمة"، للتدليل على عدميّة الصفر، الحائز على شهادة إبداع الوجود، في حقّ مبدأ هو: الـ لا شيء، لا لشيء، إلاّ لأنه أوتي القدرة على إنتاج شيء!.

إنتاج الشيء، الذي نتج عنه كل شيء!.

هذا الحجاب الذي أخفى كل شيء هو ما عبّرت عنه بقيّة اللغات بالدلالة ذاتها، وإن اختلفت في عباراتها، لأن اللغة البدئية التي تسكنها هي كلمة السرّ المعنيّة بمقارعة صلد الواقع الحرفيّ، في سبيل إنتاج المفهوم المجرّد.

ففي اللغات الأوروبية كالسلافيّة والجرمانية ترد معالجة الصفر في كلمة NULL، المستعارة من NULA اللاتينية.

وهي استعارة أيضاً من كلمة NIHIL الدالّة في اللاتينية على العدم، أو اللاشيئية، حيث تعني في لسان التكوين: البسيط.

ونحن نعلم ماذا يعني هذا "البسيط" في ميثولوجيات العالم من خلال تسويقه كرديف لـ الربوبية، في بُعده كمفهوم وحيد جدير بأن يتحلّى بخصال الصفر كمعادلة جدليّة عصيّة تجمع بين الحضور والغياب، بين الوجود وعدم الوجود. واليونانية لا تتأخّر أيضاً في تأكيد هذه الماهيّة في حال استجوبنا ذخيرة μηδέν الدالّة على الصفر لفظاً، والمعنيّة بلغز الفحوى مفهوماً، لأنها بالترجمة من البدئية ترطن بروح الكليّة بتدليلها على معنى: كل شيء.

والحقّ أن الصفر وحده جدير بأن نخلع عليه مسوح الكليّة هذه، لأنه بالموقف السلبي من العالم هو ثروة مغتربة تخفي وراء قناعها حقيقة العالم، هذا في حين تجود بـ كل شيء في حال الإستجابة لنداء هذا العالم، أو بالأصحّ، لإغواء هذا العالم.

وفي العربية أيضاً لا تتأخّر المفردة عن أن تدهشنا بمعناها الأبعد منالاً، لأنها تركيبٌ من حرف الصاد، المستبدَل بطبيعته من حرف السين الحامل لدلالة إمتلاء في البدئية، و"فر" إخفاءٌ، أي: الإمتلاء الخفيّ، أو الغيبيّ، لأن من "فرّ" الدالة على التغييب حصلنا على معنى فرار، كرديفٍ في الواقع للغياب. وأيُّ بُنيةٍ لغويةٍ تستطيع أن تنافس مفهوم كـ الإمتلاء الغيبيّ، لكي تكون جديرة بلقب الصفر، غير الصفر؟.

ولكن كَمّ الجود في الصفر لا يتوقّف عند حدود فحوى المعنى، ولكنه يستولي على رمز الحرف الأبجدي أيضاً.

سواء أكان في بُعد الحلقة، أو الدائرة، سواء في بُعد النقطة التي هي مجرّد تصغير لحجم الرقم في الإستدارة الدالّة على الصفر، ليستعير مدلول الـ MANDALA في السنسكريتية، للتعبير على أحجية الوجود كونيّاً، ويُستحضَر في الهيروغليفية للدلالة على حرف غيبيّ كالراء، الدالّة على "رو" لا بوصفها قدمة فقط هذه المرّة، ولكن بحقيقتها الدالّة على الربّ. وهو ما حدث في الليبية القديمة أيضاً، حيث تبرهن الدائرة على حرف الراء، كما هو متداول في خليفتها "تيفيناغ" طوارق اليوم، للتغنّي بروح "رو" كربوبية، وكقدمة زمانية، كأنّ القِران هنا ترجمة للحديث القدسي: "لا تسبّوا الزمان، فأنا الزمان!".

الاحتفاء بالبعد المقدّس للدائرة، للتعبير عن الصفريّة، واستحضار ذخيرة حرف الراء، في صيغته ككلمة دالّة على الألوهة في لغة التكوين، هو مشروعٌ مثيرٌ للفضول، وإلاّ لما ترنّم بخصالها أرسطو عندما وصفها بأنها أكثر الأشكال الهندسية اكتمالاً، لأنها تحوي كل الأشكال، وتغنّى بمديحها المُريدون الذين نبّهوا إلى فضيلة فيها هي قدرتها على أن تتدحرج من دون كل الأجرام فلا تتكسّر.

ولكن التدحرج جديرٌ بأن يستوقفنا. فما معنى أن يكتسب الجرم خصالاً تمكّنه من أن يتدحرج؟ ذاك يعني أن يتجرّد من كل ما من شأنه أن يعيق انزلاقه في فسحة تستثقل أن يُتوكّأ عليها، فتنازع كلّ مَن وجّه لها الطعن بعكّاز الوجود! ما معنى أن يتجرّد؟ أن يتجرّد يعني أن يتحرّر. فالحريّة وحدها تضمن التصالح مع واقعٍ مستنفرٍ بطبيعته، بل معادٍ.

ولمحو أسباب هذا العداء كان واجب لملمة شمل الجرم باستعارة مواهب الـ دروجين الأسطوري الذي لم يحقّق معجزة الدحرجة إلاّ بدمج الضدّين الخالدَيْن، لإنجاز التكامل، لإنجاز التماهي، لإنجاز الإفناء، لتتحقّق بذلك الحرية في البُعد الأبعد منالاً، ليتحقّق الإنسجام في البُعد المفقود، فينمحي كل ما يمكن أن يعيق حركة الكينونة، فينساب الجرم على سطح الوجود انسياباً، أسوةَ بمخلوق الـ دروجين تماماً، لأن كل جزء فيه هو وجهةٌ، وكلّ وجهة له صَوبٌ، وكلّ صَوب له سبيل، وكل سبيلٍ له تجربة خلاص.
ولا يعود قابلاً للكسر إلاّ لأنه استجار بشفيع هو الخلاص.

الخلاص؟

كيف لا يغدو الخلاص شفيعاً إذا كان قد استطاع أن ينتزع، بهذه العصمة، ماهيّة ذلك الإعجاز الذي لم يكن يوماً سوى صفةً ربوبية؟.

فما حقّ للدائرة أن تتباهى به ليس التسامح في التكوين، ولكن القيمة في طبيعة الطينة التي سفّهت منطق الأشياء، عندما حطّمت شوكة الحدود، ليصبح الجرم قابلاً للتحوّل الخرافي، بحيث يغدو كل موقع فيه بداية، تستوعب نهايةً، وكل نهاية هي عمق حاوٍ لبداية، فيصير كل عدمٍ في نبضه وجوداً، وكل وجودٍ في أنفاسه نفحة عدم!.

فما نحسبه صفراً، ونجسّده في الأبجديّة بشَرَكٍ نسميه حلقةً أو دائرةً، ليس عدماً، ولكنه مستودع، هو امتلاء. ليست حزمة الأعداد وحدها هي ما يحتويه، ولكن الروح. ليس الروح الرياضية التي نصّبناها حَكَماً على ناموس الوجود، ولكن الروح التي تُحيي، الروح التي إذا كان لها تميت، فإنها لا تُميت فينا الواقع الحرفيّ، إلاّ لتحيي فينا الواقع الأبديّ، بدليل أنها عندما تُبيد في جرم الكينونة الزوايا، لتستصدر حكم الإعدام في حقّ العقبة، فإنها لا تفعل لتمحو، ولكن لتيسّر ميلاد الحركة. حركة تتواصل في سيرورة، سيرورة من حيث هي حرية، فإنها معنيّة بإنتاج غنيمة عصيّة هي: الحقيقة!.