انزعج العالم بشدة قبل أسبوع حين أعلنت بريطانيا عن اكتشاف نوع جديد من فيروس كوفيد-19 ينتشر بشكل أسرع من الأنواع الأخرى الموجودة. وضاعف من الانزعاج تصريح وزير الصحة البريطاني بأن انتشار السلالة الجديدة "خرج عن السيطرة".

والأرجح أن تصريح الوزير كان موجها للداخل البريطاني بهدف تبرير اجراءات الحكومة بزيادة قيود السفر والتنقل والتجمع في موسم عطلات أعياد الميلاد ورأس السنة. لكن العالم تلقف التصريح وكأن وباء جديدا ظهر.

لم يكن التحور الأخير الذي أعلنت عنه بريطانيا الأول، ولن يكون الأخير بالنسبة لفيروس كورونا. فمنذ الكشف عن الفيروس الجديد في الصين مطلع العام، شهد الفيروس طفرات عدة نتجت عنها أنواع كثيرة من الفيروس. ومع أن الدراسات العلمية الموثوقة تفيد بوجود ما بين 17 و20 نوعا حتى الآن، فإن عدد الطفرات ربما كان أكثر من ذلك بكثير.

ذلك أمر طبيعي يعرفه كل من درس علم الفيروسات أو قرأ عنه بتوسع. فعلى سبيل المثال توجد مئات الأنواع من الفيروس المسبب للإنفلونزا العادية، بل إن التحورات الناجمة عن الطفرات تؤدي إلى سلالات جديدة سنويا.

ولهذا السبب يتم التطعيم بلقاح جديد كل عام. وفيروس الالتهاب الكبدي يوجد منه 5 مجموعات، تحت كل مجموعة نصف دستة من المجموعات الفرعية التي تضم كل منها عدة سلالات نتجت عن تحور الفيروس بسبب طفرات في تركيبه الجيني.

وليس فيروس كوفيد-19 استثناء من ذلك. المسألة ببساطة أنه كلما زادت القدرة على تحليل الخريطة الجينية لشريط الحمض النووي الوحيد المكون للفيروس كلما عرفنا بوجود طفرات أكثر وبالتالي زاد عدد السلالات الجديدة. بالضبط مثلما نجد ارتفاعا كبيرا في أعداد الاصابات في الدول التي تجري أكبر عدد من الفحوصات والتحاليل اليومية، فذلك لا يعني أن دولا أخرى ليس بها عدد أكبر ولكن لأنها لا تجري فحوصات أكثر لا "تعرف" بوجود الاصابات.

ومن بين أكثر الدول قدرة على تحليل الشفرة الوراثية لتوفر الخبرة العلمية وامكانات البحث بريطانيا والدنمارك. لذا كان اكتشاف السلالة الجديدة من كوفيد-19 التي ظهرت في حيوان المنك في الدنمارك، رغم أنها لا تنتشر بين البشر.

السلالة الجديدة التي اكتشفت في بريطانيا ثبت أنها كانت موجودة في بلدان أخرى في أميركا اللاتينية وأوروبا (وربما غيرها في مناطق أخرى من العالم لكننا لم نكتشف بعد) منذ الصيف. وتلك السلالة الجديدة هي تحور نتيجة طفرة على سلالة متحورة عن طفرة أخرى تم عزلها أولا في جنوب إفريقيا. ومن بين نحو 30 ألف جين في شريط الحمض النووي للفيروس، اكتشف البريطانيون حدوث الطفرة في نحو 23 جين تغير تركيبها الوراثي عن الطفرة السابقة في جنوب إفريقيا.

أيضا لا يختلف الأمر بالنسبة لفيروس كوفيد-19 عن بقية الفيروسات التي تسبب الأوبئة. فالطفرات غالبا ما تحدث في الجينات المسؤولة عن البروتين الذي يستخدمه الفيروس للالتحام بخلية العائل والنفاذ من جدارها. لهذا تحدث الطفرة على الطفرة على الطفرة في ذلك العدد المحدود من الجينات.

للأسف، أعاد الحديث عن السلالة الجديدة فرصة ترويج البعض لتفسيرات المؤامرة والخرافات غير العلمية، وانتقل ذلك أحيانا – خاصة في المنشور باللغة العربية – من مواقع التواصل إلى مقالات وتحليلات في وسائل الإعلام التقليدية. عاد البعض لترويج أنها "حرب بيولوجية خرجت عن السيطرة"، وربط البعض بين اكتشاف السلالة الجديدة وبدء طرح لقاحات للفيروس، وذهب البعض من الشطط إلى حد القول إنها محاولة لتحقيق أغراض سياسية.

ربما كان مفهوما رواج تلك الخرافات ونظريات المؤامرة في بداية انتشار الوباء لعدم توفر ما يكفي من المعلومات حول الفيروس الجديد بينما العلماء والباحثون يعملون على فهم تركيبه وطريقة انتشاره وأضراره بالجسم البشري. لكن الآن، وقد أصبحنا نعرف الكثير عن الفيروس ويطور العلماء نماذج علمية له ولمساره، لم يعد نشر التضليل مقبولا من غالبية البشر.

فطفرات الفيروس ليست بحاجة لتدخل بشري في سياق تطوير سلالات للحرب، بل تحدث الطفرات دائما وتتحور الفيروسات بطفرات على طفرات لتنتج سلالات جديدة، إما داخل خلايا العائل الحي أو حتى خارجها بتأثيرات كيماوية وفيزيائية من البيئة.

ولا تحتاج الشركات التي تنتج اللقاحات لسلالات جديدة لتحقق مكاسب أكبر، فما هو موجود يكفي وزيادة. أما "تسييس" أي تطور دون سند علمي فهو "استسهال" من قبل البعض لتفسير أي حدث دون إعمال العقل والمنطق.

لعل الرأي العام لا يتأثر كثيرا بذلك التضليل، الذي يستهدف به لبعض شهرة أو فائدة من الانتشار عبر الإنترنت. أما العلم والعلماء فيدركون أن الفيروسات تتحور وتنتج سلالات جديدة طوال الوقت.