المعمار شعرُ المكان، سيّما إذا تقنّعَ ببصمة الزمن الضائع، وما تغنّينا بالأطلال سوى برهانٍ على هذه الفتنة التي ترطن بها آثار العمران.

ففي تلك المرة أقام صادق بالفندق، ولم يُعلِم بحلوله في العاصمة أحداً سواي، وهو ما أجارنا من ملاحقة مريديه في وقتٍ كان فيه الرجل أيقونة الثقافة الليبية بلا منازع، مما أتاح لنا فرصة الإختلاء بمعشوقتنا المشتركة طرابلس طوال الأمد الذي سبق موعد انعقاد الندوة، في تلك المرحلة التي كانت فيها الحاضرة مازالت تحتفظ بعفّتها التي استباحتها أعاصير تغييرٍ لم، يجلب، بطبيعته سوى المحو في حقّ الواقع. فأشجار السرو المكابرة، بسيقانها الصقيلة، الملساء، الممشوقة، كأنها حوريات الأساطير، مازالت تصطفّ في الساحات، وعلى جوانب الشوارع، وفي الحدائق العامّة، قبل أن تداهمها أعاصير التغيير. والكورنيش الأنيق، الملتفّ حول جيد المدينة، بانسياب ثعبانٍ خرافيّ، مازال قائماً، قبل أن ينسفه هوس التغيير الذي آلى على نفسه ألاّ يعترف بتغييرٍ نحو الأفضل، ولكن بدين التغيير نحو الأرذل!

أمّا ضمير الحاضرة، المترجم في أبجديّة غنائيّة مجسّدة في المدينة القديمة، التي حقّ لها أن تكون روح الواقع العمراني في عمقه التاريخي، فقد لحقتها لعنة التغيير أيضاً. هذه النزعة التخريبية، التي يتشدّق بها هذا التغيير، حاصرت الحاضرة، مقررةً نسف هذه الشهادة المكانية المجّانية، وقطع دابرها من واقع المكان، ولولا تدخّل العقلاء، وحملات الرأي العام، المستنكرة لهذا العمل، لفقدت طرابلس ضميرها الذي حاججت به حواضر الأمم.

وبرغم ذلك لم تتراجع  روح التغيير عن مخطّطها، الذي نفّذته بصيغة أخرى، أخبث مفعولاً، هَجّرت بموجبه المدينة من سكّانها، ومن فحواها، لتبقى أنقاضاً مهملة، ما لبثت أن تحوّلت إلى أطلال مسكونة بالأشباح.

وهي نزعة أوجدتها عقلية سياسيّة، آلت على نفسها تحقيق القطيعة مع كل ما متّ بصلة إلى الماضي، لتنتهي إلى سحب الإعتراف بوجود هذا الماضي لحساب حاضرٍ رهَنَ كل مؤهّلات وجوده في قدس أقداسٍ هو المستقبل؛ المستقبل المنزّه عن النقد لسببٍ بسيط وهو حضوره في بُعدٍ مفقود هو بالطبيعة مجهول، ولذا فهو معصومٌ من كشوف حساب إلى الأبد!

ومن الطبيعي أن يصطدم نموذج رومانسي حالم مثل صادق النيهوم، بعالمٍ صارمٍ، يحتكر الحقيقة مسبقاً، تلبيةً لمشيئة أيديولوجية، خصيصاً كي يحتكر السلطة أيضاً، باحتكار الحقيقة، متمثّلاً في تلك المفرزة التي أطلقت على نفسها إسم "حركة الضبّاط الوحدويين الأحرار"، مقرّرين التضحية بكل القيم الأخلاقية والجمالية والإجتماعية التي فطر عليها الإنسان الليبي البريء، المبعوث لتوّه من منافي عدمٍ، سوّقته قرون الإحتلال في واقعه قدَراً، حريصين منذ البدء على ترحيل سعادة هذا الإنسان إلى أجلٍ غير مسمّى، محتجب باسم مشجب غامض هو: المستقبل!

ففي الجلسة الأولى، المكرسة لمناقشة البند الأول في الندوة، وهو: "القوى العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة"، اشتعل الخصام بين صادق وعمر المحيشي عضو مجلس الثورة، بسبب الخلاف حول تحديد هوية هذه القوى، حيث رأى صادق في مداخلته وجوب أن يُعامل كل الشعب الليبي كصاحب مصلحة حقيقية في الثورة، وعدم إقصاء أي فئة من القائمة. ولكن ما غاب عن صادق، المسكون بروح الشاعر، هو حاجة الثورة، كل ثورة، إلى اختلاق أعداء، حتى لو لم يوجد الأعداء، لأن وجود شبح العدوّ وحده سيضمن لفرسان الثورات الإستمرار في احتكار السلطة. وهو ما عبّر عنه المحيشي في مرافعته الحامية ردّاً على مروّض الأحلام الشقيّ، القادم من مجاهل مجهولٍ لا يختلف في أسطوريّته عن واق الواق، مثل هلسنكي، يجري في لسانه خطاب غريب يليق في رطانته بمن انسلخ عن واقع لغة القوم السائدة. ولذا استحقّ من عضو المجلس التصدّي لمنطقه بما كان دوماً في ألسنة أهل السلطة حجّةً وهو: التّهمة! بلى! لقد تلقّى صادق جزاء تجديفه ما كان بمنطق المرحلة، وبمنطق أهل المرحلة، تهمة، وهو: المثالية!

فأن يكون المرء مثالياً، في واقعٍ ينطلق بتعبيد الطريق لهيمنة أيديولوجيا، فهذا يعني أنه ساقط قيد! يعني أن هذا النموذج موسومٌ بقصاص، بلعنة، سوف تنتقل من خانة منطوق الخطاب، إلى خانة الحكم الغير قابل للإستئناف، ليحطّ هذا الحكم الرحال في ملفّات الأجهزة الأمنية، ولا وجود لقوّة تستطيع أن تنتزعه من هناك، أو تجرؤ على إدخال أي تعديل في صيغته، ليغدو منذ الآن وصمة، لعنة، قدراً يقرّر مصير حامله الذي لن يكون سوى المكان الوحيد المناسب لكل نزيهٍ في عالمنا وهو: السجن!

لم تذهب النزعة المثالية بالشاعر إلى غياهب الحبس في بُعده الحرفيّ، ولكنّها ذهبت به إلى غياهب سجنٍ آخر كان في دين الشعراء دوماً معبوداً، وهو: حسن الظنّ. حسن الظنّ بأهل السلطان الذين لا دين لهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أفلحوا في استدراج شاعر كل الأزمنة، الملقّب باسم سقراط، لكي يثق بهم إلى الحدّ الذي لم يتردّد فيه بتجرّع السمّ نزولاً عند مشيئتهم!

صادق أيضاً تنازل وقبِل تولّي منصب "أمين الدعوة والفكر" في تجربة أول تنظيم سياسي لفّقه الضباط، بوحيٍ من تجربة مصر الناصرية، ليكون نواة حزب، مجرّداً من إسمٍ استنزل فيه زعيم الحركة تحريماً يرتقي إلى مستوى الخيانة العظمى في أول خطابٍ جماهيري، كما الحال مع "الحزب"، معلناً "مَنْ تحزّبَ خان"، ليبقى هذا الشعار ختماً معلّقاً في الشوارع طوال أربعة عقود. وبرغم اجتناب كل ما يمكن أن يوحي بالتحزّب في أدبيّات المرحلة، بيد أن تجربة "الإتحاد الإشتراكي" ما لبثت أن لفظت أنفاسها سريعاً، مستعيرةً هذا الإخفاق من سلفتها الناصرية بالطبع! ولكنها لم تلفظ الأنفاس قبل أن تلقّن الملّة المثاليّة، أمثال صادق، درساً في عدميّة الجدوى من استنزال الحقيقة من ملكوت وطن الرؤى السماوية، إلى واقع الحضيض الدنيوي، لأنها تجربة خاضها أساطين الحكمة منذ القِدَم، لتنتهي دوماً إلى فشلٍ لم يكن بدون نزيفٍ أيضاً.

والواقع أن الحدس في تحريم الأحزاب، لم يخذل القادة الجدد، لأن في الأحزاب يكمن خطر هو التعدّدية في الآراء. والإعتراف بتعدّد وجهات النظر تشتيتٌ للإرادة، وتهديدٌ باقتسام السلطة، لن تقبله العقلية الطامحة لاحتكار الحقيقة، كضمانٍ وحيد للإستمرار في احتكار السلطة.

بقبول صادق للعب دور في المرحلة صار طريداً مرّتين، لا مرّة واحدة: طريد الأنتلجنسيا الوطنيّة التي جاهر النظام بالعداء لها منذ البدء، وطريد رموز الإنتهازية السياسية التي بدأت تتشكّل حثيثاً لانتزاع نصيبٍ لها من غنيمة كانت عطيّة كل نظام سياسي جديد.

في مؤتمر الأدباء، المنعقد ببنغازي في يناير 1973، بلغ خصام صادق مع الزملاء المناوئين لدور "أمانة الفكر" في الواقع الثقافي الوطني، الذروة، مترجمةً في مرافعة عبد الله القويري التي عبّر فيها عن رفضه لرسالة هذا الجهاز المستحدث خصيصاً للإيقاع بالفكر، والمستهدف لقمع حرية التعبير، حسب رأيه.

هذا الموقف من مؤسسة إدارية ناشئة انقلب إلى موقف من شخص صادق النيهوم، بل والأسوأ من كل شيء، موقف من فكر صادق النيهوم. هذا الفكر الموسوم، من قبل بعض المثقّفين، بتهم لا تختلف في الفحوى عن تهمة المثالية، التي أعلنها عضو مجلس الثورة في حقّ الرجل، سيّما إذا تأمّلنا الواقع الثقافي الوطني المسكون بالتيارات الفكرية آنذاك، بما في ذلك وجهة نظر العناصر اليسارية، التي لا تتسامح في شأن قناعاتها.

ومن الطبيعي أيضاً أن تتزامن هذه الحملة مع حملة أخرى تنطلق من داخل التنظيم، مترجمةً في حرف ذلك الصراع الذي نشب بين صادق من جهة، وجلّ أمناء المناصب الأخرى، لتبلغ مع محافظ بنغازي الذروة أيضاً في تلك الأيام؛ لأدرك مدى عمق محنته عندما استنجد بشخصي لمساندته إعلاميّاً في الحرب المستعرة ضدّه من جبهتين، وهو ما لم أكن لأبخل به على إنسانٍ كل خطيئته هي إيمانه بوجود حقيقة في هذا العالم، منزّهة عن الأيديولوجيات التي تعتنق دين الإحتكار المسبق، وخارجة عن إرادة السلطة، ومغتربة حتى عن وجودٍ مترجم في حرف اللغة. يحدث هذا في واقعٍ محكومٍ بنوايا أخرى، هي نزعة في الطبيعة البشرية، ليس أقلّها شأناً كيمياء عنصرٍ لئيمٍ هو الحسد، الذي كان سبباً في إماته كمّ هائل من مجموع الجنس البشري، ربما يفوق ما أماتته الحروب.

وهكذا لم يجد صادق خلاصاً إلاّ بالفرار. وطبيعي أن تحطّ به الرحال في المكان الوحيد الذي كان قبلة أمثاله من ملّة الباحثين عن فردوس حرية التعبير، وهي: بيروت!

كان ذلك في 1972 حيث حلّ النيهوم حاملاً في قلمه أوراق اعتماده المترجمة في متن بيانه الجريء، الذي كان بمثابة مانيفستو آنذاك، تغنّى فيه بمن كان ملاذاً للتسامح، وهو السيّد المسيح، نشره في مجلّة "الأسبوع العربي" التي كانت منبراً مرجعيّاً للمستضعفين وروّاد المنافي، احتفاءً بالحلول في وطنٍ كانت الأغلبية فيه تدين بدين نبيّ التسامح، معزّياً نفسه بالتفرّغ لما هو جدير حقاً بالتفرّغ، وهو التنوير، بدل التطاول في سلّم مريب لم يُخلق له، وغريب عن فطرته، وعن الحلم الذي استدرجه دوماً إلى ما وراء الآفاق، ليحترف اغتراباً لم يختره.

تفرّغ صادق لإصدار موسوعات علميّة، ذات أبعادٍ تنويرية، في نيّة لوضع عتبات أساسيّة، لتربية الروح المعرفيّة في نفوس أبناء الجيل الذي عوّل عليه في استحداث تغييرٍ يمسّ العقلية في طور التكوين، وليس التغيير في بُعد المغامرة الإنقلابية التي تسقط علينا من خارجنا، لتُسقط، بسقوطها، نظاماً قائماً، لتستبدله بنظامٍ آخر، يقوم على أنقاض نظامٍ سابق، يبقى أيضاً مهدّداً بالسقوط من قبل نظامٍ ثالث، ينتظر دوره للإنخراط في المهزلة، لأن الرهان إذا كان على السلطة، كما اعترف لي بعد عقدين من ذلك التاريخ في جنيف، فهو يقيناً لم يكن رهاناً على السلطة السياسية، ليس على السلطة الحرفية، التي تسكن المنظومة الدنيوية، ولكنه رهانٌ على السلطة الوجودية، التي تلعب المعرفة في رحابها دور البطولة، مشفوعة بلقية هي الحرية، الرهان في حجّتها، بالضرورة، حقيقة. فكلّ مَن نصّبَ الحرية في تجربته معبوداً، مفضّلاً أن يسرح خارج القطيع، مستنطقاً القرين الحميم الذي يسكنه، ليستطلع حقيقة هذا الوجود، هو في عرف السِّوَى طريد فردوس، هو، في ناموس عَبَدَة الأيديولوجيات، عدوٌّ مبين. كل مَن تجاسر وفكّر خارج نطاق السواد المهيمن على واقع الإنسانية، المبلبل بجعجعة الباطل، هو سليل ضلال قدره القصاص، والموقف منه كالموقف من عرّاب العقل البشري عمانويل كانط: المدان من قطبين: قطب الميمنة، كما قطب الميسرة، لأن الحقيقة دوماً تسكن بُعْدَاً يقع خارج سلطة الإستقطاب. ولمّا كان صادق قد تقمّص روح أوليس مبكّراً، باعتناق الرحيل ديناً، فقد أقلع عن إدمان أفيون التغيير، وعاش حرّاً، لأن الحكمة قد بشّرت المهاجرين بفردوس الحرية منذ القدم، لأن ما معنى أن يحيا الإنسان دون الخضوع لقيدٍ يكون في رقبته وَهَقاً، أو لشرطٍ يكون في الروح مسّاً، إن لم يكن احتراف هجرةٍ هي سَيرٌ في ركاب الزمان، بقدر ما هي فرارٌ من مكان؟ وما هو الفرار من المكان إن لم يكن تحرّراً من وزر المكان، وخلاصاً من النظام الذي يهيمن عادةً على المكان؟ فما غاب عن ملل الإستقرار هو حقيقة المكان كشَرَكٍ وجوديّ، معادٍ بطبيعته للحرية، التي يتطلّع إليها، بتغيير أنظمةٍ لا وجود لها إلاّ في مساحة العمران، القائمة قسرّاً في المكان؛ ولم يكن أهل الرحيل ليستعيروا هويّة القبيلة الإلهيّة، لو لم يتمرّدوا على هذا الحبس الصريح في حدود المكان، ليسرحوا في أرض الله طلقاء، مسكونين بروح نقاءٍ هو في الواقع خصلة الملائكة، لأن الحرية هي التميمة الوحيدة التي تستطيع أن تشذّب الروح في المخلوق الفاني، لتبدع فيه روح الطيف الخالد؛ وكل ما عليه أن يفعله كي يحقق هذا التحوّل هو أن يقلع عن الوهم القائل بوجود تغييرٍ مّا، يستطيع أن يأتي بخلاصٍ مّا، من خلال نظامٍ مّا، لأن لا وجود لنظامٍ مكتمل، بل ما يوجد هو النظام المحتمل، الذي يغنينا عن اقتراف خطيئة سفك الدماء، الرديفة دوماً للحصول على نظام الحلم، لأن تضحية كالنزيف الدموي لا تشتري مغامرة تغيير واقع النظام المحتمل، طمعاً في الفوز بالنظام المكتمل!

فطوبى لمريدي الأسفار الذين يدينون بدين أوليس، أمثال النيهوم، لأن من صارت له الحرية وطناً وحده لن يبالي إذا صار طريد وطن: فالمسير في ركاب الزمن حصانة، لأن المهاجر هنا حميم زمان، المستعير للحرية الأكثر سموّاً كما هي حرية الحضور في الزمان؛ ولذا فهو معصومٌ من سلطة المكان، وتحرّره من سلطة المكان هو ما يجيره من سلطة نظامٍ شيمته أن يهيمن على المكان، ولكن هيهات أن يملك حقّ الهيمنة على الزمان.

فمريد المنافي، المعتنق لدين الإرتحال؛ إرتحالٌ بما هو سفر، بما هو سيرورة، أي بما هو تنقّل، هو تغييرٌ موصولٌ لحضورٍ في مكانٍ، لا يلبث أن يتنكّر لهويّته كمكان، بوصفه حلولاً في بُعدٍ آخر، لا يعود منذ الآن مكاناً بالإنكار، ولكنه ينقلب فسحةً مجازيّة، تسبح في حرية، حرية، يستعير فيها الزمن هوية المطيّة، بفضل التضحية بنعيم المقام، وارتضاء البُعد المفقود وطناً، هذا النموذج الإرتحالي، المنفي، وحده المعصوم من إدمان إفيونٍ، كان ومازال في حياة الأجيال معبوداً، كما الحال مع ما اعتدنا أن نخلع على جنابه لقباً مهيباً، هو: التغيير!

فعابر السبيل، المهاجر في أرض الله، وحده امتلك حقّ أن يطأ واقع المكان بقدميه، ليواكب الزمن، ليسري فيه الزمن، ليحقق التماهي مع الزمن، فلا يعود في حاجة لأن يستشعر كلكل الزمن، غلّ الزمن، الدافع دوماً لتغيير ما بالواقع، لأن واقع المهاجر لم يعد واقعاً حرفياً، ولكنه واقع حرية، واقعه واقع يسكنه، وليس هو مَن يسكن الواقع، فتحرّر، فحقق السلطة على الواقع، وعلى نظام الوجود الذي يهيمن على واقع المكان، ليعبر إلى بلاط التغيير الحقيقي، لا التغيير الوقتيّ، الذي يستجديه أقنان المقام، المتشبّثين بتلابيب المكان، في انتظار معجزة تهديها لهم حظوظ ماكرة، مسكونة عادةً  بجرثومة لعنة، ككل العطايا التي نتلقّاها بالمجّان!

بوسع النموذج النيهومي أن يحدس في نهاية المطاف حقيقة من الطبيعي أن تقوده إليها التجربة، وهي أن حلمه التغييري، المترجم عادةً في حرف نظامٍ هو هنا وجوديّ، ولذا فهو أعظم شأناً بما لا يقاس من أيّ نظام سياسيّ، قد تحقق على المستوى العمليّ، حيث يلعب فيه خيار عصيّ كاحتراف المنافي دور البطولة، ليعفيه عناء التطاول في شأن سلطة لم يكن يوماً من طينة فرسانها بطبيعته الوجدانية، بل وبطبيعته الشعرية، المعادية بالسليقة لكل ما متّ بعلاقة لذخائر الواقع الدنيويّ، بعد أن أيقن بالتجربة أن هذه اللعنة، التي تبدو للأغيار غنيمة، ليست بالعمل الذي يمكن أن يناسب الإنسان السويّ؛ فكيف بالإنسان التأمّليّ، الذي يعتنق التجلّي ديناً؟

فالمنفى، كتجربة حضور في رحاب البُعد المفقود، هو أيضاً استحضارٌ للفردوس المفقود من رحاب الزمن الضائع، لاغتنامه فردوساً مستعاداً، بفضل ثمنٍ فجيع هو الإغتراب، إغترابٌ مشفوعٌ بنزيف الروح الأقسى من نزيف الدمّ، لأن الرهان في المغامرة هنا هو: الحقيقة، المنزّهة عن باطل أباطيل هو: السلطة!

فالقياس في شأن الحقيقة، كمعبودة أجيال، هو الموقف من الذخيرة المعترف بها إنسانياً وأخلاقياً كشهادة براءة، وهي الروح العفوية التي تتجلّى في النموذج النيهومي كمبدأ طبيعي، بل فطري.

إنها ببساطة جنسٌ فريدٌ من طفولة تأبى إلاّ أن تعبّر عن نفسها كسليقة حرية. أي تلك البراءة التي تغنّى بها شلّينج في حقّ عمانويل كانط في مرثيته لعرّاب العقل البشري حين وفاته، فسوّقها معاصروه في سيرته سذاجةً، لأنها ذلك الإعجاز الذي لا يستحي أن يعتنق دين شيخوخةٍ في الطفولة، كما يعتنق دين الطفولة في الشيخوخة، ممّا يعني أنه كان سعيداً في عودته إلى فردوس البراءة هذا بحرف الخَرَف، لا بوصف إضاعة الذاكرة كقصاص على انتهاك حرمة صرح غيبيّ، هو حكرٌ على الألوهة، كما الحال مع استنطاق العقل في بُعده الصريح، الميتافيزيائي، ولكن لسحرٍ لم يهب مفاتيح سرّه إلاّ لمن ارتضى الطفولة معبوداً، والروح العفوية يقيناً، لينال حظوة زيارة مبدع العقل المحض في ملكوته، وهي التميمة التي يعاملها خصومه كسذاجة!

صادق أيضاً انتمى إلى هذا الفصيل الطفولي المعتمد في دين الأخيار كشهادة على اصطفاء. وهي خصالٌ لا تتجلّى فقط في مسلكه الأخلاقي اليومي الدّمث، البشوش أبداً، الباسم دوماً كما يليق بكل حكيمٍ آلى على نفسه ألاّ يتورّط في نزاعٍ مع الخصوم، فيستخدم في حقّهم تعويذته القديمة التي سخّرها في تجربته الإبداعيّة كرأسمال: السخرية!

وكان شجاعاً بما يكفي كي يعتمد هذه النزعة لا مع الخصوم ذوي الموقف النقدي، ولكن مع خصوم الفريق الآخر، العدميّ، أي أصحاب الموقف الحَسَديّ (!)، وهم، في عالم الإبداع، ظاهرة وجودية ساحقة في كل الأزمنة، وإلاّ لما انتهى المطاف بإمام الحكمة سقراط لاعتناق قدر التضحية بوشاية كاذبة من شويعر مغمور، بوحيٍ من وباء الطبيعة الإنسانية.

فهل روح الطفولة ترياق كل علل الروح؟

بلى! تجربة النموذج النيهومي برهنت أن روح الطفولة ترياقٌ لا يجير من مفعول ورم الحسد وحده، ولكنه يعفي من ورم الحداثة أيضاً، المتمثّل في الأيديولوجيا! سيّما في تلك المرحلة التي هيمنت فيها هذه الجنيّة لا على الواقع السياسي العربي وحده، ولكن على الواقع الثقافي العربي أيضاً، بل لم يكن لها أن تتسلّل إلى البلاط السياسي لو لم تمرّ عبر بوّابة الثقافة آنذاك. ولهذا السبب كان عصيّاً العثور على مبدع عربيّ لم تصبه عدوى الأدلجة في زمن ٍ كانت فيه نبيّة العصر، واعتناقها كمعبود وحده ضمان حصانة. وأن ينجو مبدع من أشراكها فهذا تجديفٌ في حقّ معبود، وسبب كافٍ لحصد النصيب الأوفر من ملل الخصوم، لأن موقفاً كهذا هو بمثابة استهتار بربّ الواقع الثقافي، يُجيز قصاص سدنةٍ هم بالطبيعة فريسيّون!

والدليل؟

الدليل مترجمٌ في نصّ صادق، وسارٍ بوضوح في موقفه الوجودي، المبدئي، من تلك الفئة العرقيّة الثقافية، التي كانت ضحيّة الطغيان الأيديولوجي بأقطابه الثلاثة: الديني والقوميّ والأمميّ، حيث يجاهر فرسانها بالعقليّة القمعية التي نادت في أدبيّاتها بنفي حقوق هذه الأقليّات الشقيّة، واعتبار توقها للإعتراف بلغتها أو بممارسة شعائرها الدينية، ضرباً من "نعرات" كيديّة من صنع الإستعمار، ناسيةً أن منع الإنسان من استخدام لغته الأمّ ليس مجرّد قمع، ولكنه حكمٌ بالإعدام في حقّ هذا الإنسان، مادمنا قد آمنّا مع من آمن بالمسلَّمة القائلة بوحدة اللغة والكينونة.

صادق النيهوم وحده غنَّى خارج فلك هذه العقلية في واقع وطنٍ ثريّ بالتنوّع الثقافي والعرقي، عبر الأزمنة، كالواقع الليبي، كما وثّقته البعثة الأممية التي أشرفت على استقلال ليبيا نهاية الأربعينيات، وحددته في أربع هويّات تاريخية حسب تعداد الهويات السكّاني: العربية، والأمازيغيّة، والعبرانيّة، والإيطالية، ليأخذ المسّ القومي، المستعار من الشرق، على عاتقه دقّ الإسفين في قلب هذا النسيج، القائم عبر القرون، ليبدأ النزيف في روح وطنٍ غنيمته السلم، سواء في الإنتماء، أو في المصير. وليس مصادفة أن يكون فضول الرجل نحو هذه الأقليات هو سبب تعارفنا في ذلك الخريف من عام 1968 في مؤتمر الأدباء عندما تقدّم منّي مبدياً رغبته في تعلّم لغة أمّة كانت حتى ذلك الوقت مجهولة، من قبل أبناء وطنٍ كانت في هويّته أصليّةً، لأن ما معنى أن نهفو لتعلّم لغة أمّة مّا، إن لم يكن اعترافاً بوجود هذه الأمّة كهوية وجودية، ليكون العلم بهذه اللغة ليس مجرد إشباع لشغفٍ معرفيّ، ولكنه توق لاغتنام وجودٍ إضافي، يسكن اللغة المكتسبة، إلى جانب الوجود الأصليّ، الذي يسكن اللغة الأمّ؟

ويبدو أن حرص صادق على تعلّم لغات العالم القديم، كما نلاحظ في متونه التالية، إنما كان هاجساً يليق بمفكّر مبكّر ظاميء لاستطلاع واقعه الوجوديّ، بقدر انفتاحه الفطري على واقعه البيئيّ. وهي مؤهّلات كافية لاحتلال موقع الحياد، في مشاهدة مسرحيّتنا البشريّة البائسة، من علوّ منزّهٍ عن الأهواء المدنّسة بأنفاس الأيديولوجيات السائدة.

فالموقف من الحضور في بُعْدٍ يقع خارج السياق هو عصمة ما لبثت أن بلورت المفهوم الذي صار أفيوناً في حياة الرجل، البديل لأفيون الأيديولوجيا، وهو: الحرية. في بُعدها الميثولوجي بالطبع، لا البعد السياسي، الذي تحوّل في ممارسات النخبة ابتذالاً بحكم سوء الإستعمال.

فالحرص على وجود الأقلية هو منحة من وحي الموقف من الحرية بالطبع. والدليل ترجمه لي في وصيّة سرّ لي بها في أحد أيام عام 1972 عندما روى لي كيف سافر إلى واحة "هون" بدعوة من صديق، ليحظى، في تلك الرحلة الصحراوية، بمشاهدة أحد فرسان أمّة اللثام، ممتطياً جملاً، منطلقاً وحيداً في متاهة أعظم صحاري العالم، قادماً من العدم، ميمّماً صوب العدم، غير عابيء على شيء، غير معنيّ بشيء، ليعترف لي بأنه لم يحسد مخلوقاً على شيء، كما حسد ذلك الشبح على كل شيء!

لم يكتفِ بتلك النفحة الوجدانية، المسكونة بشحنة حنين الإنسان الذي اغترب طويلاً، ولكنه أضاف ليهديني وصيّة تدعوني لأن أعمل كل ما بوسعي لكي لا يقع القوم في شرك الإستقرار، تلبيةً للنداء المريب المعبّر عنه في أدبيّات الدولة آنذاك باسم "مشروع توطين البدو"! كأنّي بالرجل لا يتردّد في أن يعبّر عن ماهيّة الحرية التي تسكنه، فيرى خطر الكلكل الذي يتهدّدها، مجسّداً في نيّة دولة، هي بكل المقاييس تنّينٌ يكتم أنفاس كل قيمة وجودية سامية، فلا يجد ما يحصّن به الهبة، كلقية ربوبية في عالمٍ سافلٍ يحترف الحضيض، سوى هتاف مريد حقيقة، في مقام أبي بكرٍ الشبلي: "إنّي أغار على القديم أن يراه المحدث!"، لأن بأي منطق يجرؤالظلّ على الوقوف شاهداً على أصل، وبأيّ حقّ يسعى القيد لكتم أنفاس الروح، المفتولة من نسيج حريةٍ، هي حبكة ملفّقة من حلم؟ فلا يملك عرّاب الحقيقة إلاّ أن يهتف بالنداء المثيل لنداء سليل الملك كريوز الأبكم الذي هتف بلسان القدر: "أيها الإنسان لا تقتل الملك كريوز!"، استجابةً لمشيئة نبوءة عرّافة معبد دلفى!

هتاف الرجل النبويّ انطلق في مرحلة كان فيها القوم مازالوا يسرحون في صحرائهم الكبرى طلقاء. وها هو الحدس لم يخذل صادقاً، لأن توطينهم تالياً كان بمثابة زجّ بأمّة الرحّل في حبوس استقرارٍ استغلقت عليهم فحواه الخبيثة التي صادرت عفويّتهم، وزوّرت فيهم طفولة كانت في فطرتهم رهان وجودٍ ما لبثت أن لفظت أنفاس النزع الأخير في واقع استرخاءٍ، من الطبيعي أن يميت فيهم روحاً، هي رأسمال الإنسان البريء، ليغتربوا لا عن جنّة صحرائهم وحدها، ولكن عن واقع وجودهم برمّته، لتصحّ فيهم كلمة إنسانٍ من الطبيعي أن يستعير مواهب العرّاف بوحيٍ من حرية كانت في تجربته طبيعةً ثانية.

طبيعة ثانية؟

كلّا! بل الحرية تسري في وجدان مريد الإغتراب طبيعةً أولى. ووصيّته، في الترجمة إلى لغة عرّافات معبد دلفى إنّما تقول: "أيها العمران: إحترس أن تقتل الطفولة في الإنسان!"، لأن ذلك كفيلٌ بميلاد الـ"غوليم" الأسطوريّ، الذي يدبّ في دنيا وجودنا بجسدٍ بلا وجدان!

فالطفولة شهادةٌ على براءة، في حقّ حريةٍ، هي بالحضورِ في الطبيعةِ، هويّة فردوسٍ مستعاد.