تَكاد تُسلٍم جميع الدول وكافة النظريات الفلسفية والسياسية بوجوب احترام حقوق الإنسان، فاليوم لا تَكاد دولة واحدة في العالم تُصَرِح برفضها لحقوق الإنسان، بل كلها تُعلن أهمية الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وتمسكِها بما جاء فيها من أهداف نبيلة.

وتأسيسا على هذا التوافق في الآراء والسياسات يمكن أن نعتبر أنه وُجِد قاسم مشترك بين الجميع أو نواة صلبة ثابتة من الحقوق لا يمكن أن يشملها أي استثناء، وهي واجبة الاحترام على الصعيد الكوني، وتسعي كل هذه الحقوق لتحقيق هدف نهائي سامٍ، ألا وهو تحقيق وضع أخلاقي أساسي لكل فرد، لا يٌمكن تصور الإنسانية بدونه.

تنصًب الاتفاقيات الدولية المتصلة بحقوق الإنسان أساساً على العلاقات فيما بين المجتمع والفرد أو بين الدولة ورعاياها، وذلك على خلاف الحال في الاتفاقيات الدولية الأخرى التي تتركَز على العلاقات بين الدول الأطراف، كما أن الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، لا تَتضمن مصالح أو مزايا شخصية متبادلة للدول الأطراف كما هو الحال في أغلب الاتفاقيات الدولية الأخرى.، لذلك فإن التزام الدول يعد على حد تعبير السيد "فيتزموريس"، التزاما قانونياً مطلقاً لا يفرض احترامه من قبل الدول الأخرى، فأحكام حقوق الإنسان مُوَجّهة مباشرة لمصلحة الأشخاص ولأسباب إنسانية.

وُصِفت أحكام حقوق الإنسان بالعالمية، كَونها ترتبط بالهوية الكونية للشخص الإنساني، فهي ليست حِكرا على جنسيات دُون أخري، فضلا عن أنها تستند في الأساس على مبدأ المساواة بين البشر جميعهم، وبالتالي يجب تَخلُصها من أطياف الدولة، فهي تنصرف في إسنادها للفرد على أساس اتصافه بالصفة الإنسانية وليس على أساس مركز قانوني معين قابل للإبطال أو للفسخ أو للزوال، ولا على أساس انتمائه إلى مجموعة معينة، فهذه الحقوق في جميع الأحوال لا تستند إلى مركز قانوني تعاقدي أو تنظيمي على وجه العموم.

يُعد الحق في العمل، من الحقوق الاقتصادية للإنسان، لأن العمل هو السبيل الوحيد للحصول على المال لتأمين الحاجات المعيشية له، وهو حق لكل فرد في المجتمع، دون تمييز م أي نوع، مع احتفاظه بحرية اختيار العمل أو قبوله له، وفقا لمؤهلاته أو المهنية. وهذا الحق أقره العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة في عام 1966، فقد نصّت المادة السادسة من العهد على : " تُقر الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بالحق في العمل الذي يتضمن حق كل فرد في أن تكون أمامه فرصة كسب معيشته عن طريق العمل الذي يختاره أو يقبله بحرية، وتتخذ هذه الدول الخطوات المناسبة لتأمين هذا الحق "، وهذا يعني أن الدول الأطراف في هذه الاتفاقية تتحمل مسؤولية تأمين العمل لكل المواطنين أو الأفراد المقيمين فيها ضمن شروط قانونية عادلة، تتيح لهم العيش بكرامة، وتحميهم من البطالة.

أَتت المادة السابعة من الاتفاقية السالف الإشارة إليها لتنص على حق كل فرد في أجور عادلة تؤمن له ولعائلته معيشة كريمة، وعي حقه في الترقية وفقل لكفاءته ونشاطه المهني، وعي الحد المعقول لساعات العمل، وعلى الاجازات المدفوعة، ومِنَحاً عن أيام العطلة العامة، وأوقات للراحة حيث جاء فيها: "تقر الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية بحق كل فرد في المجتمع بشروط عمل صالحة وعادلة تكفل بشكل خاص شروط".

إن الاتفاقية المشار إليها تعد أحد الاتفاقيات المعنية بحماية حقوق الإنسان التي ترتب التزامات إيجابية على الدولة، ووفق المادة الثانية من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تلتزم الدول الأطراف فيها باتخاذ خطوات فورية لتنفيذ الحقوق بمقتضي العهد وبما تسمح به مواردها المتحدة، ولقد أشارت في ذلك الصدد اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية إلى أنه: "في الحالات التي تعيش فيها أعداد كبيرة من الأفراد في فقر وجوع، يجب على الدولة أن تثبت أن عدم رعايتها لهؤلاء الأشخاص يرجع إلى أسباب خارجة عن إرادتها".

يتبين من قراءة المادة السابعة السالف بيانها أن الاعتراف بالحق في العمل كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان يحتم على كل دولة أن تعمل على تحقيق ما هو أبعد من المتطلبات التي تعبر عنها سياسة التشغيل، لضمان التمتع الفعلي بهذا الحق بالنسبة للعمال دون تمييز بينهم.

يُرتب أيضا العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية آثارا أُفقية بمعني أن هذه الآثار تحكم العلاقات القانونية الخاصة بين الأشخاص العاديين أنفسهم، فالتزامات الدول بمقتضاها تنصرف إلى حماية هذه الحقوق من الغير وليس من السلطات وحسب، وتمتد مسؤولية الدولة إلى قيام الدولة بتنظيم وضبط المبادلات والمعاملات الخاصة بغية التحقق من أن الأفراد لا يحرمون بصفة تعسفية من التمتع بحقوقهم من جانب الأفراد الآخرين، وتتوقع معظم المعاهدات الدولية المتعلقة بضمان حقوق العمال من الدول ضمان احترام وحماية حقوق العمال من جانب أرباب العمل والمؤسسات العامة، لذا تتطلب اتفاقية منظمة العمل الدولية الخاصة بالحرية النقابية وحماية حق التنظيم العقابي لعام 1984 من الدول الأطراف فيها: "اتخاذ كل التدابير اللازمة والمناسبة لضمان ممارسة العمال وأصحاب العمل حقهم في التنظيم بحرية".

أشارت المادة الثانية من العهد المذكور في فقرتها الثانية أيضا إلى مسألة جد مهمة وهي، التزام الدول ببذل العناية الفورية لضمان هذه الحقوق بدون تمييز، فبدأ عدم التمييز هنا يتسم بالتطبيق الفوري، وهنا فلا تنتظر الدول حدوث الانتهاكات الجسيمة مثلا بحقوق العمال الأجانب المقيمين على إقليمها فتقوم لاحقًا بإصدار تشريعات تجميلية كرتونية في مجال صون وحماية حقوق العمال التي أهدرتها سلطات الدولية المختلفة سواء التشريعية أم التنفيذية أم القضائية، فالأصل أن تقوم الدولة الطرف في هذه العهد باتخاذ التدابير الإدارية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.

ضَربت قطر عرض الحائط بكل المبادئ والقواعد القانونية المتعلقة بحقوق العمال السالف بيانها، وبالرغم من مرور عقد من الزمان على منح قطر حق استضافة كأس العالم، كان استغلال العمال الأجانب في قطر والإساءة إليهم أمرين منتشرين، حيث تعرض هؤلاء للعمل القسري، وعدم تقاضي الأجور، وساعات العمل المفرطة، وكشفت العديد من التقارير الدولية لمقرري منظمة الأمم المتحدة المعنيين بحقوق الإنسان، فضلا عن تقارير متواترة لكثير من المنظمات الحقوقية غير الحكومية عن وقوع العمال الأجانب في قطر في براثن حلقة من الانتهاكات الأخرى منها على سبيل المثال لا الحصر: المستويات العالية من ديون العمال الناجمة عن ممارسات التوظيف غير القانونية وغير الأخلاقية، والتأخير في دفع الأجور وعدم دفعها، والعوائق التي تحول دون تحقيق العدالة عند انتهاك الحقوق، وحظر إنشاء النقابات العمالية، والتقاعس عن إنفاذ قوانين العمل، ومعاقبة أرباب العمل الذين يسيئون إلى عمالهم.

على الرغم من الإصلاحات التشريعية "المُدعاة" لنظام الكفالة، لا يزال العمال الأجانب في قطر، وفقا لتقارير حقوقية عديدة، مرتبطين بأرباب عملهم الذين يعملون بمثابة "الكفيل" الرسمي من لحظة دخولهم البلد وطوال فترة عملهم، ولا يستطيع العمال الأجانب أن يطلبوا أو يجددوا تصاريح إقامتهم بأنفسهم، ويتحمل الكفيل مسؤولية القيام بذلك، ومع ذلك، إذا تقاعس الكفيل عن تجديد التصريح، فإن العامل هو الذي يواجه العقوبة.

لا يزال أرباب العمل في قطر، يتمتعون بالحق القانوني في إلغاء تصاريح إقامة العمال أو توجيه تهمة "الهروب" ضد العمال الأجانب الذين يتركون وظائفهم دون إذن، فيفقد العمال الوافدون حقهم في البقاء في قطر وبالتالي يواجهون الاعتقال والترحيل، ويديم هذا النظام اختلال توازن القوى لصالح أرباب العمل ويزيد من مخاطر الانتهاكات العمالية. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن عملية مصادرة جواز السفر لا تزال منتشرة على نطاق واسع، لا سيما بين عمّال وعاملات المنازل البالغ عددهم 173000، كما يصعب على العمال الذين ليس لديهم جواز سفر مغادرة البلاد، أو تغيير وظائفهم، حتى لو كان بإمكانهم الآن القيام بذلك دون إذن صاحب العمل.

يعاني الآلاف من العمال الأجانب في قطر من تأخر في دفع الأجور أو عدم دفعها، فبعد الحصول على قروض ذات فائدة عالية في كثير من الأحيان لدفع رسوم توظيف مكلفة وغير قانونية؛ يمكن أن تكون هذه التأخيرات مدمرة للعمال، خاصة عندما لا يدعمون أنفسهم فحسب بل أسرهم في بلدانهم الأصلية. ففي مئات الحالات، لا تزال لجان النزاعات العمالية الجديدة تستغرق عدة أشهر للنظر في القضايا، وقد لا تزال تتقاعس عن ضمان الدفع عندما لا تدفع الشركات، أو لا تستطيع الدفع ما أجبر العديد من العمال على العودة إلى ديارهم مفلسين نتيجة لذلك.

صفوة القول، لا يجب على الجماعة الدولية أن تُسَلم بالادعاءات القطرية الأخيرة التي تتعلق بإصلاحات تشريعية في مجال حقوق العمال، فالشعارات والبيانات وحتى التشريعات غير القابلة للتطبيق لن تُجد أي فتيل في تغيير السجل الحقوقي الأسود لقطر، لكن العبرة تكمن في وضع القواعد القانونية التي تحمي حقوق العمالة الأجنبية من خلال التشريعات الواضحة، وضمان حسن تطبيق تلك القواعد بواسطة القضاء، واتخاذ الوسائل الكفيلة بردع من يعتدي على تلك الحقوق بما تملكه الدولة من سلطات تنفيذية.