طوال الأسبوعين الماضيين، وإلى جانب كل الشؤون الإقليمية، ظلت وسائل الإعلام في تركيا مشغولة بذكر شخصيتين سياسيتين تركيتين، هما رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، والرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطية المؤيد لحقوق الأكراد صلاح الدين ديمرتاش المسجون منذ العام 2016.

فإمام أوغلو صار يبرز كوجه سياسي شبابي مناهض للسياسات الداخلية التفصيلية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فيما يبرز ديمرتاش كزعيم سياسي صلب، يدافع من سجنه عن قيم الحُرية والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان. 

منذ فوزه برئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، صار إمام أوغلو حاضرا في المشهد العام التركي كشخصية إصلاحية على التضاد من شخص الرئيس أردوغان، الذي صارت أطياف واسعة من القواعد الاجتماعية التركية تراه شخصًا غارقا في دائرة المقربين الحزبيين والعائليين القريبين منه، الذين يسيرون الحياة الاقتصادية والعامة التركية على أسس من التحاصص والتقاسم فيما بينهم.

على العكس من ذلك تماما، وجه إمام أوغلو انتقادات واضحة لتوجهات وسلوكات أردوغان الداخلية، لاسيما ما يخص السياسيات الاقتصادية والصحية التي تتخذها حكومة أردوغان التي يعتبرها إمام أوغلو مسؤولة بشكل مباشر عن التفشي المنفلت لجائحة كورونا في المدن والمناطق التركية، والفشل الاقتصادي الذي تسبب في تضخم أسعار العملة الوطنية التركية وانهيارها.

وصلت حدة التعارض بين الشخصين إلى درجة أن دفعت أردوغان لتحريض وزارة الداخلية التركية على فتح تحقيق مع إمام أوغلو، لاستمراره في معارضته وتشهيره بمشروع "قناة إسطنبول"، الذي يتبناه أردوغان ويعتبره أهم المشاريع الكبرى التي قد تحفظ اسمه في تاريخ المدينة، بينما يراه إمام أوغلو بوابة كبرى للفساد والمحسوبية والإضرار بالبيئة والحياة البرية المحيطة بمدنية إسطنبول، إضافة إلى هدر قرابة عشرة مليارات دولار ستختفي من الخزينة العامة التي وصلت ديونها العامة إلى أكثر من خمسة وستين مليار دولار.   

 على دفة نظيرة ومكملة، قدم السياسي الكردي/التركي صلاح الدين دميرتاش نموذجا لشخص صلب مدافع عن الحريات السياسية والعامة في البلاد، خصوصا ما يتعلق بحقوق الجماعات الأهلية التركية وشروط تقييد السلطة الحاكمة. لكن عودة دميرتاش ارتبطت بطلبات متراكمة من المنظمات الحقوقية الدولية بإطلاق سراح السياسي الكردي، لأنه أساسا ليس ثمة ما أدين على أساسه، ما خلا بعض الاتهامات السلطوية بدعم الإرهاب، فقط لتصريحات أدلى بها قبل خمسة عشر عاماً!.

في مشهدها العام، تبدو تركيا وكأنها بحاجة ماسة إلى تلك الثنائية بالضبط. إلى منظومة إدارية وحكومية تتحلى في حد معقول بالمؤسساتية والشفافية والتجريد البعيد عن ضغوط القوى السياسية ومصالحها، مثلما يحدث الآن، لتتمكن من انتشال البلاد من التفسخ الاقتصادي والإداري الذي تغرق فيه.

إلى جانب ذلك، لن يؤدي هذا الشكل من الفضاء السلطوي القائم على الحُكم المطلق للشخص والحزب والجماعة القومية بذاتها، إلا إلى مزيد من تشييد السلطوية والشمولية في البلاد، والتي تؤسس لأشكال من الخراب العام، الذي يحول تركيا إلى وحش إقليمي، يحطم كل ما يحيط به، من مناطق ودول وحساسيات أهلية. ومن طرف آخر إلى دولة فاشلة في الداخل، غير قادرة على أداء مهامها كسلطة عمومية عليها الكثير من الواجبات.

حتى يحدث كل ذلك، وحسب توازنات الحياة السياسية الداخلية التركية، فإن الشخصيتين السياسيتين، ومعهما حزباهما السياسيان، يجب أن يخلقا تكاملا سياسيا لمواجهة أردوغان، ذلك التكامل الذي لن يمر إلا عبر تحالف سياسي بينهما.

ثمة جبل من الموانع التي كانت وما تزال تفصل بين التيارين السياسيين. فحزب الشعوب الديمقراطية المؤيد لحقوق الأكراد، الذي يشكل ديمرتاش أبرز قادته ورموزه، ما يزال حزباً يسارياً مؤمناً بأن مشكلة تركيا الرئيسية إنما تكمن في التهميش وعدم الاعتراف بالحقوق القومية لقرابة ربع سكان البلاد، هم الأكراد. في مقابل ذلك، ما زال حزب الشعب الجمهوري، الذي يعد إمام أوغلو أبرز قادته الجدد، يركن إلى ترسانة من المفاهيم والقيم والخطابات القومية التركية الصلبة/الأتاتوركية، المتخوفة من خلق أي تواصل أو تحالف سياسي مع تيار سياسي مؤيد لحقوق الأكراد، يمكن أن يطيح بصلابته الإيديولوجية القومية.

قبل أكثر من عام، شكلت انتخابات بلدية إسطنبول الكبرى تجربة أولية حول إمكانية ذلك. فبأصوات الناخبين الأكراد، الذين تركهم حزب الشعوب الديمقراطية ليصوتوا لحزب الشعب الجمهوري، تمكن إمام أوغلو وحزبه من انتزاع بلدية إسطنبول من حزب العدالة والتنمية، الذي بقي مسيطراً عليها منذ وصوله للحكم.

لكن، ورغم كل ما حدث، لم يستطع الحزب الأتاتوركي رد الاعتبار لحزب الشعوب الديمقراطية، الذي عزلت السلطة التركية الحاكمة كل رؤساء البلديات المنتخبين التابعين له في مختلف المناطق التركية.

ثمة أكثر من سنتين كاملتين قبل حدوث الانتخابات الرئاسية التركية، وحدوث هذا التوافق السياسي بين الطرفين وحده القادر على خلق جبهة تركية "ديمقراطية"، مناهضة لتحالف أردوغان مع الأحزاب القومية النظيرة، وانتزاع السلطة من يده، وهو أهم وأكثر ما تحتاج إليه تركيا ومواطنوها المتعبون، وكامل المنطقة.