لم تغفل واحدة من الإمبراطوريات القديمة أهمية جزيرة قبرص كواحد من أهم مفاتيح السيطرة على طرق شرق المتوسط. لذلك فقد تعرضت لغزوات المصريين القدماء والأشوريين والبطالمة والرومان حتى صارت من نصيب الإمبراطورية الرومانية الشرقية المعروفة بالدولة البيزنطية.

وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب راودت والي الشام معاوية بن أبي سفيان الرغبة في غزوها لولا ما عرف عن الخليفة من خشيته على المسلمين من ركوب البحر، فكان على معاوية أن ينتظر حتى عهد الخليفة التالي عثمان بن عفان الذي وافق على اقتراح معاوية فغزا المسلمون الجزيرة.

لم يسفر الغزو الإسلامي لقبرص عن ضمها بشكل كامل ونهائي للدولة الإسلامية، فقد دأب القبارصة على التمرد مما استدعى تكرار توجيه الحملات إليهم، فضلا عن تشبث البيزنطيين بها مما جعلها تخضع لهم تارة وللمسلمين تارة أخرى.

بقي هذا الوضع المتذبذب حتى جاء عصر الحملات الصليبية، فاحتل الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد الجزيرة وسيطر عليها.

لم يبق قلب الأسد على قبرص في حيازته، وإنما سلمها لآل لويزينيان الفرنسيين الذين كانوا سابقا يحكمون مملكة بيت المقدس الصليبية، وفقدوها لصالح صلاح الدين الأيوبي بعد موقعة حطين الشهيرة. فاتخذوها قاعدة لملكهم وبقوا يتمسكون بلقب "ملك بيت المقدس" كنوع من "الملكية من المنفي".

ولم يفت الملك ريتشارد قبل رجوعه إلى إنجلترا أن ينصح الفرنجة أنهم إن أرادوا السيطرة على الشرق واسترداد بيت المقدس فعليهم أن يبدؤوا بغزو مصر!

استمع القبارصة الفرنجة لنصيحة ملك الإنجليز فاتخذوا من الجزيرة قاعدة لهجماتهم على سواحل الشام ومصر، مما دفع السلطان المملوكي الظاهر بيبرس لمحاولة غزوها التي فشلت بسبب تعرض السفن المملوكية للتدمير نتيجة عاصفة مفاجئة.

وبقيت قبرص قاعدة للخطر الأجنبي خاصة هجمات القراصنة الخاطفة على سواحل الشام ومصر.

وكان أكبر مظهر لخطورة موقع قبرص هو ما تعرضت له الإسكندرية في عهد السلطان الأشرف شعبان من غزو فرنجي قبرصي بقيادة الملك بيتر الأول لويزينيان الذي اقتحم تحصينات الثغر المصري واحتل بجنوده المدينة وعاث فيها فسادا لمدة أسبوع سفك فيه دماء عشرون ألفا من أهلها ونهب ثرواتها قبل أن يضطر للانسحاب منها بعد فشله في السيطرة عليها نتيجة استبسال المدافعين عنها وتحرك الجيش المملوكي من القاهرة لاسترداد الإسكندرية، فانسحب إلى قبرص يجر أذيال الخيبة حيث اغتيل بأيدي الساخطين على رعونته التي جلبت على مملكته نقمة المماليك وحلفائهم.

كان على المماليك أن ينتظروا حتى عهد سلطانهم القوي الأشرف برسباي الذي وجه ثلاث حملات لغزو قبرص، عاثت فيها ونجحت ثالثتها في احتلال القصر الملكي ورفع العلم فوقه والقبض على جانوس ملك القبارصة وحمله إلى القاهرة حيث تم الطواف به في موكب النصر ثم أعلن برسباي العفو عنه وإعادته إلى عرشه شريطة أن يحكم هو ومن يخلفونه بصفاتهم كنواب عن سلطان المماليك، وأن يبعثوا للقاهرة بالجزية وألا يتولى ملك منهم بغير موافقة القاهرة

وهكذا نجح المماليك في إنهاء الصراع الطويل.

ولكن، بعد انهيار دولة المماليك أحكم البنادقة سيطرتهم على الجزيرة ليستفيدوا من موقعها في تعزيز وجودهم في شرق المتوسط، حتى غزاها العثمانيون في عهد سلطانهم سليم الثاني.

كان سبب الغزو هو ضيق العثمانيين بمنافسة البنادقة لهم في شرق المتوسط، فضلا عن تشجيع اليهود الأوروبيون المضطهدون هناك للسلطان العثماني لغزو الجزيرة نتيجة رغبتهم في تحوليها إلى وطن قومي لهم. وقد أقنع زعيمهم دون جوزيف السلطان سليم الثاني أنها تمثل له مصدر ثروة طائلة لتميزها بزراعة الكروم المخصص لصناعة النبيذ.

إضافة لذلك فقد رفضت القوى الأوروبية مد يد العون للبنادقة وحلفاءهم الإسبان في التصدي للغزو العثماني، فالفرنسيون حالفوا العثمانيين، وال بابوية خشيت محاربتهم وإنجلترا رأت في انتصار إسبانيا وحلفاءها خطرا على مصالحها، وبناء عليه استطاع العثمانيون أن يضموا الجزيرة وأن يحولوها لإيالة عثمانية.

بقيت قبرص محكومة عثمانيا، حتى جاء عهد السلطان عبد الحميد الثاني.

في ذلك الوقت كانت دولة العثمانيين تعيش طور الاحتضار، وكان عبد الحميد الثاني متهافتا على تعزيز حكمه الديكتاتوري القمعي. وكانت شعوب البلقان تكسب استقلالها عن المحتل العثماني الذي افتقد أبسط أدوات الحكمة في تحبيب حكمه للشعوب ..بل على العكس كان العثمانيون بارعون في إثارة النفور من حكمهم الفاسد للشعوب التي شاء قدرها أن تمر بمحنة الحكم العثماني.

فراح الصرب والبلغار والألبان واليونان يقضون مضاجع الباب العالي بثوراتهم.

فضلا عن ذلك فقد كان الغول الروسي يتمطأ مستعدا لجولة جديدة من الحرب مع العثماني المحتضر، وهو الكابوس الذي كان يؤرق نوم عبد الحميد الثاني.

فما هي أقصى صور الحكمة التي تفتقت عنها قريحة السلطان الذي كان يحمل آنذاك لقب أمير المؤمنين وخليفة المسلمين؟

إنه تسليم قبرص إلى إنجلترا!

بلى، فإنجلترا كانت آنذاك تتلمظ وهي تتطلع إلى مصر، ولما كان غزو مصر يحتاج إلى قاعدة انطلاق وإمداد في شرق المتوسط تطل مباشرة على مدخل قنال السويس، فقد سعت إنجلترا لحيازة قبرص.

فاستغل الإنجليز تكالب الدول الأوروبية على تقاسم تركة رجل أوروبا المريض-العثمانيون-وهو لم تعلن وفاته بعد، وتحرش الروس بالعثمانيين، فعرضت على عبد الحميد الثاني أن تساعده بحماية المضايق العثمانية على البحر المتوسط، بشرط أن يمنح السلطان العثماني جزيرة قبرص للإنجليز لتكون قاعدة لهم لحماية الأملاك العثمانية.

وبالفعل وافق أمير المؤمنين وسلطان وخليفة المسلمين على العرض الإنجليزي. وحاز الإنجليز قبرص غنيمة باردة!

وبعد أربع سنوات فقط من هذا الاتفاق المهين بين المحتل الطامع والسلطان الخائن كان الإنجليز يتخذون من قبرص قاعدة لغزو مصر واحتلالهم لها الذي استمر أكثر من سبعون عاما.

وهكذا أضاع العثمانيون بحماقاتهم ثمار كل ما بذل السابقون لهم من جهد ودم في سبيل تأمين مصالح وسواحل البلاد العربية في شرق المتوسط. تلك الحماقة التي لم تكن خيانة عبد الحميد الثاني أولها، وإنما كان سوء الإدارة والغطرسة العثمانية وفساد الطغمة العثمانية الحاكمة حلقات متصلة منها زينها عبد الحميد الثاني باتفاقيته المنبطحة الحمقاء.

بعد كل ذلك يجد العثمانيون الجدد الصفاقة الكافية ليتحدثوا عن حقوق لهم في قبرص وشرق المتوسط، وهم الذين يدقون طبول الاحتفاء بأسلافهم الذين سلموا أمن شرق المتوسط للمحتل الأجنبي في الماضي القريب.

يتحدثون اليوم عن قبرص التركية، ولكن ليس على سبيل حماية أمن المنطقة وإنما على سبيل إضافة حلقة جديدة إلى سلسلة تهديداتهم لهذا الأمن ورغبتهم في لعب دور المحتل الطامع هذه المرة، وهم يحسبون أنهم يقدرون على ذلك. ويغفلون حقيقة أن أمن شرق المتوسط تسهر عليه أعين ترصد أي تهديد وتنذر من يجرؤ على العبث بما يرى لا ما يسمع!