في الآونة الأخيرة ازدادت الأسئلة العراقية بخصوص مصير حركة الاحتجاجات في خضم أجواء الخيبة التي شعر بها الداعمون لهذه الاحتجاجات والتشفي الذي برز في إعلانات بعض معارضيها، وذلك بعد قرار المحتجين فض الاحتجاج في ساحة التحرير قبل ثلاثة أسابيع تقريباَ.

علقَ داعمو الاحتجاجات آمالاً كبيرة على استئناف ضخم ومدو لحركة الاحتجاج في ذكراها السنوية الأولى في أكتوبر الفائت إلى حد اعتبار هذا الاستئناف دليلاً على استمرار فاعلية الاحتجاج وتأثيره المهم في السياسة والمجتمع. بعيدا عن سعادة الشامتين بما يعتبرونه فشل الاحتجاجات، تكمن الإشكالية الأولى هنا، فثمة سوء فهم عميق بين كثير من المحتجين أنفسهم والمتعاطفين معهم بخصوص فهم معنى الاحتجاجات وأهدافها والمسارات المفتوحة أو المغلقة أمامها. ثمة افتراض مغلوط سائد بين داعمي الاحتجاج وخصومه، كان وما يزال في حاجة إلى تفكيك متأن، مؤداه أن اختبار قوة حركة الاحتجاج وتأثيرها يكمن في قدرتها على أن تكرر في تشرين 2020، على نحو أشد كثافة وفي المكان نفسه، مشهد تشرين 2019 حيث الانطلاقة الأولى لحركة الاحتجاج "التشرينية" من دون الأخذ بنظر الاعتبار تغير المشهد السياسي واحتمالاته المختلفة في 2020 عما كان عليه في 2019.

يرتبط جذر هذا الالتباس بتعريف حركة الاحتجاج نفسها، وهو أمر جوهري لفهمها وتحديد مساراتها، فقد دأب الكثير من الناشطين في الاحتجاج على إطلاق مصطلح ثورة في وصف حركة الاحتجاج هذه. وإذا كان لهذا المصطلح وقع رومانسي ومثالي مفهوم يتسق مع الرغبة الشعبية والاحتجاجية الهائلة والمشروعة في إحداث تغيير جذري سريع وايجابي في أوضاع البلد، فإنه غير دقيق منهجيّا في توصيف هذه الحركة وإن كان استخدامه مُبرِّرا في السياقات الاحتفائية والتعبوية، لكن ليس التحليلية. في السياقات المنهجية التحليلية وفي إطار الحراكات الشعبية، يصف مصطلح الثورة في العادة تزامن تغيرين أو تحولين أساسيين ضخمين.

الأول هو تحول اجتماعي أو شعبي على مستوى الأفكار بمعنى الهوية يخالف أو يناقض المعنى السائد للهوية قبل الثورة. عراقيّا، صنعت احتجاجات تشرين هذا التحول الشعبي المهم في الهوية إذ شكلت حسا أصيلا وجديدا بالوطنية العراقية على أساس تجارب العراقيين العاديين وليس على أساس الرؤية الأيديولوجية للسلطة الحاكمة والنخب السياسية المهيمنة كما كان يحدث دائما منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة. هذا هو المنجز الأهم لاحتجاجات تشرين لحد الآن، وهو ليس منجزا خطابيا أو عابرا كما يتصور الكثيرون، خصوصا الشامتين بـ"نهاية" الاحتجاجات، على نحو خاطئ أو متحامل، لكن يبقى هذا المنجز غير مكتمل من دون اكتسابه إطارا سياسيا وبروزه مؤسساتيّا، أي تحوله إلى قوة فاعلة ومؤثرة في السياسة والمجتمع. التحول أو التغير الثاني هو مؤسساتي عبر الإطاحة بالبنى السياسية التي تدير الدولة، أي تغيير النظام السياسي بأكمله أفرادا ومؤسساتٍ والمجيء بنظام سياسي جديد يتناسب مع التغير الاجتماعي أو الشعبي. حينها فقط ينطبق مفهوم الثورة على ما يحدث. بعض الأمثلة الصحيحة منهجيّا على الثورة تشمل الثورات الأشهر في التاريخ، كالثورة الفرنسية في 1789 والثورة البلشفية في روسيا في 1917 والثورة الإيرانية في عام 1979، ومؤخرا الثورة التونسية في2011. 

احتجاجات تشرين ثورية جزئيّا وليس كليا، إذ هي ثورية في جانبها الاجتماعي والشعبي، لكنها ليست كذلك في جانبها المؤسساتيّ لأنها أصلاً لم تكن تهدف إلى الإطاحة بالمؤسسات واستبدالها بأخرى، بل كان هدفها، وما يزال، هو الإطاحة بالنخبة السياسية وأحزابها التي تدير هذه المؤسسات بعد 2003، بسبب فساد الأخيرة وفئويتها الشديدة في إدارة المؤسسات والموارد. كان إيمان المحتجين بالمؤسسات ورفضهم للأحزاب التي تديرها تمييزا واضحا في حركة احتجاج تشرين منذ بدايتها من خلال إقرارهم بشرعية المؤسسات عبر المطالب التي رفعوها وأصروا عليها واستهدفوا عبرها طبقة الساسة التي تهيمن على المؤسسات وتشوهها وتستغلها لخدمة مصالح الأحزاب وليس مصالح الناس. فمطالبات المحتجين بمكافحة الفساد واستقالة حكومة عادل عبد المهدي، وتغيير القانون الانتخابي الجائر وإجراء الانتخابات المبكرة وملاحقة قتلة المحتجين وتقديمهم للمحاكمة كلها تمر عبر المؤسسات، وكان الضغط الاحتجاجي والشعبي هو الذي قاد إلى تحقيق بعض هذه المطالب من خلال المؤسسات كتشريع القانون الانتخابي وإعلان الانتخابات المبكرة، وهو الضغط الذي يحتاج أن يتواصل ويتصاعد لتلبية المطالب الأخرى.

لم تفشل الاحتجاجات ولم تنته، فالأسباب المؤدية إليها، من فساد سياسي ومالي وهشاشة الدولة وتغول الميليشيات وسوء الخدمات وغياب الفرص الاقتصادية وانتشار البطالة وازديادها ما تزال قائمة ويحتاج حل الكثير منها زمنا طويلا نسبيا في ظل نخبة وترتيبات سياسية مختلفة عن النخبة والترتيبات الحالية الجائرة. المتغير الوحيد والمهم أيضا بهذا الصدد هو أن ثمة أفقا للتغيير عبر الانتخابات التي، إذا جرت على نحو شفاف وبمشاركة عالية، يمكن أن تزيح جزءا مهما من النخبة السياسية الحالية التي صنعت الفشل واستفادت منه وما تزال تعيش عليه. 

التوصيف الصحيح والدقيق للاحتجاجات العراقية هو أنها حركة إصلاحية عميقة استطاعت أن تحشد المجتمع ضد النخبة السياسية من خلال نزع الشرعية الأخلاقية والسياسية، لكن ليس القانونية، عن هذه النخبة وفرض أجندة إصلاحية جادة عليها قد تقود، على المديين المتوسط والبعيد، إلى إزاحة هذه النخبة عن مصادر القوة والنفوذ من خلال استخدام ذات المؤسسات والأدوات القانونية التي أوصلت هذه النخبة إلى مواقع هيمنتها الحالية. يعني هذا أن الانتخابات، بوصفها آلية سلمية لتداول السلطة، هي إحدى الأدوات المتاحة لحركة الاحتجاج لإحداث جزء مهم من الإصلاح الذي تنشده. لكن أهمية الانتخابات المقبلة التي يفترض إجراؤها في حزيران المقبل لا تكمن في احتمالات التداول السلمي التي تثيرها، وإنما أيضا وعلى نحو أهم، في تحديد الخيارات المقبلة بشأن هوية حركة الاحتجاج نفسها، أي هل سيبقى إصلاحا يعمل تحت سقف المؤسسات أم يتحول إلى ثورة تطيح بالمؤسسات. يرتبط الجواب عن هذا السؤال المهم  بانسداد أو انفتاح أفق التداول السلمي للسلطة، بمعنى فشل أو نجاح المؤسسات في ترتيب هذا التداول عبر الآليات الانتخابية تعبيرا عن إرادة الجمهور المطالب بالتغيير الإصلاحي. في حال إجراء الانتخابات المقبلة في ظل تزوير كبير يعيد إنتاج النخبة الحالية بصور جديدة، فهذا سيدفع الجمهور المحتج إلى مواضع اليأس الكامل والغاضب وعادةً ما يكون مثل هذا اليأس مادة الثورات كما تشهد على ذلك الثورات الكثيرة التي حصلت عبر التاريخ. لكن يفترض كل هذا أيضا شيئا آخر وهو استعداد المحتجين والجمهور الواسع المتعاطف معهم على تنظيم أنفسهم سياسيا والتحشيد الشعبي الذكي للمشاركة في الانتخابات. بخلاف ذلك، إذا بقيت نسبة المشاركة في الانتخابات ضئيلة، كما في انتخابات ٢٠١٨، وسط عزوف احتجاجي واسع عن خوضها، فعلى الأكثر سنشهد استمرار هيمنة هذه النخبة الحالية على مواقع القرار وتجديد شرعيتها القانونية والانتخابية. 

ثمة نزوع أخلاقي بين كثير من المحتجين يربط شرعية الانتخابات والمشاركة فيها بتحقيق كامل شروط المحتجين كما في تفكيك الميليشيات وتقديم قتلة المحتجين للقضاء. لا شك أن هذه المطالبات مشروعة وقانونية وصحيحة، لكنها تفترض في السياق العراقي الحالي الصعب والمعقد، وضعا مثاليا لم يتحقق في أي لحظة منذ عام ٢٠٠٣، حتى مع وجود أكثر من ١٥٠ ألف جندي أميركي في البلد ودعم دولي واسع للعراق لتحقيق استقرار أمني وسياسي لا مكان فيه للميليشيات والقتل خارج القانون، وسيادة القضاء العادل والفعال الذي يستطيع تعقب كل المجرمين والمتهمين بأفعال إجرامية. على الأكثر، لن تنتج الأشهر المقبلة القليلة مثل هذه الشروط المثالية، التي هي طبيعية ومتوقعة في سياق دول أخرى. مع ذلك، يمكن حتى في الظروف الحالية ضمان إجراء انتخابات نزيهة إلى حد كبير، إذا جرى الاشتغال على هذا الأمر على نحو صحيح وقوي. تبني بعض المحتجين والمتعاطفين معهم منطق الكل أو لا شيء ليس فقط دليلا على غياب الواقعية بل ممرا مريحا للنخبة السياسية الحالية لأن تبقى متنفذة حيث هي منذ 17 عاما.

لن يذهب ضحايا الاحتجاجات وعذابات عوائلهم ومحبيهم والعدالة المتوخاة بحقهم وبحق بقية المجتمع هباءً إذا قادت، في آخر المطاف، إلى وجود كتلة فاعلة في البرلمان العراقي المقبل تفرض على أجندة السياسة وفي أروقة الدولة محاسبة القتلة وتفكيك الميليشيات وتعقب الفاسدين. بعكس الثورات التي تغير الأنظمة السياسية سريعا، بالعنف والدم في أغلب الاحيان، تقوم الإصلاحات على أساس التدرج وتراكم النجاحات على امتداد فترة طويلة نسبيا. في العراق، بني النظام السياسي الفاسد الحالي عبر 17 عاما من تراكم الجهود وبناء الولاءات والدورات الانتخابية المتعددة ليكتسب عبرها أساطين هذا النظام وأحزابه مرانا كبيرا في مهارات البقاء والمناورة والتكيف. لن ينتهي هذا النظام خلال أشهر أو عبر انتخابات واحدة، لكن، البدء بتفكيكه على نحو جدي ومؤسساتي أمر ممكن تماما. السبيل لهذا هو الانتخابات في ظل قانون جديد يعطي فرصة معقولة للقادمين الجدد على السباق الانتخابي. هذا هو المتغير المهم في 2020الذي لم يكن حاضرا في 2019.

ما تمر به حركة الاحتجاج الآن هي مرحلة انتقالية حرجة، مرحلة ترقب وانتظار، ستختبر عبرها، في حالة المشاركة الانتخابية الواسعة والواعية، قدرة الآليات الدستورية والأدوات الانتخابية التي تشكلت بعد 2003على استيعاب الاختلاف واحترامه وتحويله إلى واقع مؤسساتي. سيكون فشل هذه الآليات والأدوات كارثيا على البلد، ونهاية الأمل في أن نظام ما بعد 2003 قابل للاستمرار والتجدد عبر الإصلاح.