كان التقرير الدولي الذي أصدرته مؤسسة كارنيغي البحثية واضحاً تماماً بشأن المستقبل المنظور للاقتصاد العراقي، ذلك الوضوح الذي يمكن اختصاره بجملة واحدة كُررت عشرات المرات أثناء التقرير: "العراق قد يواجه انهياراً مالياً كلياً للدولة".

هذه الخلاصة التي تكثف مجمل الوقائع العراقية الحالية، وتكشف جزء وافراً مما قد يواجه هذا البلد في المستقبل المنظور، من مؤسسات ومجتمعات داخلية، لكنه أيضاً يدل على طبيعة السياسات والتوجهات والاستراتيجيات التي اتخذتها السلطات العراقية طوال السنوات الماضية، السياسية منها بالذات، والتي أوصلت البلاد لحالها الراهنة، وحيث إن الكثير من تلك السياسيات ما تزال سارية وفعالة في الحياة العامة والسياسية العراقية.

المؤشرات المالية الراهنة، تقول إن مجموع المداخيل الشهرية للحكومة العراقية لا تستطيع إلا أن تغطي نصف حاجاتها المالية، وإن هذا المستوى من العجز المالي إنما سيدفع الحكومة لأن تؤخر من التزاماتها المالية المباشرة، بما ذلك الاستثمار الداخلي ودفع رواتب موظفي الدولة. لكنها ستشكل عاملاً إجبارياً لأن تتخذ الحكومة توجهات للاستدانة العامة، أما داخلياً من البنك المركزي وباقي المصارف المحلية، أو خارجياً من الدول والمؤسسات المالية الدولية.

لم يحدث ذلك فجأة، بل نتيجة تلاقي عوامل كانت تتراكم طوال السنوات الماضية، إلى أن أحدثت معا هذا المشهد الاقتصادي/السياسي.

فالعائدات النفطية للحكومة العراقية طوال عام 2019 كانت تصل إلى مستوى 6.5 مليار دولار شهرياً، يضاف إليها ما يزيد على مليار دولار من العوائد الشهرية غير النفطية، الأمر الذي كان يوصل ميزانية الدولة العامة إلى قُرابة مئة مليار دولار، التي كانت تغطي كل حاجة الدولة المالية. لكن انهيار أسعار النفط، وتراجع كمية الإنتاج بسبب اتفاقية مجموعة أوبك بسبب تفاقم وباء كورنا، خفضّا تلك العوائد إلى النصف تماماً؛ مما أدخل الحكومة العراقية في هذا المستوى من العجز المالي.

هذا الأمر الذي يعني بجوهره أن مجموع الحكومات العراقية السابقة لم تكن تملك أي رؤية اقتصادية/سياسية، بل كانت مركونة إلى "خِدر" اقتصادي، يؤمن بأن العراق بلد ثري للغاية باحتياطاته النفطية، وأن تدفقها سيستمر على الدوام، وسيغطي حاجات البلاد الاقتصادية على الدوام. كانت ذلك بمثابة بداهة أولية بالنسبة إلى كل الحكومات العراقية السابقة، وإن كانت أسوأ خيار على الأطلاق، لأنه ببساطة كان يدفع ملايين المواطنين لأن يعيشوا أشكالاً مركبة من البطالة المقننة. لكن الأحزاب الأيديولوجية المركزية العراقية الحاكمة "الشيعية" كانت تحتاج إلى ذلك الشكل من الفضاء الاجتماعي، لتكون قادرة على فرض أيديولوجياتها الدينية.

المستوى الثاني من العوامل يتعلق بالأعداد الهائلة للموظفين العموميين في مؤسسات الدولة، حتى صار مجموع العراقيين الذين يتلقون رواتب ثابتة من الحكومة العراقية أكثر من سبعة ملايين عراقي، الذين تقارب نسبتهم ربع سكان البلاد، وهو من أعلى نسب التوظيف العام في العالم. يستهلك هؤلاء الموظفون أكثر من ثلاثة أرباع عائدات الدولة، على شكل رواتب أو ميزانيات تشغيلية، تستهلك كامل ما يجب أن يُرصد منطقياً للاستثمار وتطوير البنية التحتية وقطاعات التعليم والصحة العامة.

لم يكن ذلك بالنسبة للحكومات العراقية السابقة مجرد خيار اقتصادي، بل كانت نهجاً سياسياً محكماً، اتخذته القوى السياسية العراقية منذ عام 2003. بحيث جذبت ملايين العاطلين غير المهيئين للعمل في أي مهنة، وأدخلتهم في قطاعات ومؤسسات الدولة، لتستحوذ على ولائهم السياسي والتنظيمي، بالذات ليكونوا ناخبين مؤمنين، أو أعضاء في الميليشيات المرتبطة والتابعة لهذه الأحزاب الحاكمة. هذا الخيار رفع أعداد الموظفين العموميين في البلاد إلى الملايين، وأحدثوا كل هذا الأثر التحطيمي في الاقتصاد العراقي.

المستوى الثالث والأخير كان يتعلق بالخصخصة التي شملت الدولة ومؤسساتها من قِبل القوى السياسية العراقية، الحاكمة منها بالذات، منذ عام 2003 وحتى الآن.

لم تكن تلك الخصخصة مجرد بيع مؤسسات القطاع العام إلى نظيراتها من القطاع الخاص. بل كانت عملية استيلاء وتقاسم فيما بينها، بحيث خُص كل حزب أو جهة سياسية بوزارة أو مؤسسة عامة، وصارت تشغلها لصالحها ولصالح مؤيديها، كقطاع ذاتي للمنفعة. كانت تلك الديناميكية متفقاً عليها ضمنياً بين كل القوى السياسية العراقية، بالذات أثناء تشكيل الحكومات وتقاسم الوزارات والمؤسسات فيما بينها، حتى أكثرها حساسية وأهمية، مثل قطاعات النفط والتربية والدفاع.

فما كان يجري في العراق لم يكن مجرد فساد اقتصادي في بعض المؤسسات والقطاعات، بل كان أقرب لديناميكيات النهب العام، بحيث تفقد الدولة الغالبية المطلقة من عوائدها، سواء من الثروات الباطنية أو عوائد المنافذ الحدودية، والقسم الذي يأتي منه إلى الخزينة العامة يذهب في سواقي تقاسم مؤسسات الدولة بين القوى السياسية.

كل تلك التفاصيل تثبت حقيقتين بسيطتين في المشهد العراقي. تقول الأولى إن الأزمة الراهنة في العراق ليست اقتصادية بأي من مسبباتها، بل فقط بنتائجها، وإن الفاعلية السياسية هي الأساس الذي أحدث كل هذه الوقائع.

المسألة الأخرى تتعلق بالحلول الواجب اتخاذها بناء على ذلك. فمجموع الإجراءات التي تتخذها الحكومة في القطاعات الاقتصادية والمالية لن تكون ذات فائدة من دون إعادة إصلاح حقيقي في العملية السياسية، بالذات من حيث سلطات القوى الحزبية المركزية الحاكمة.