فكرة الاعتراف هي الغائب الأكبر في الثّقافة العربيّة المعاصرة. وغيابُها يفضح ما في هذه الثّقافة من عِلَل وأدواء، وما يَعْتَوِر نظامَ اشتغالها من ضَعْفِ توازُن. ولم يكن مثل هذا الغياب ليُحْسَب في باب الموروث الثّقافيّ المنحدر إليها من الثقافة العربيّة في الأزمنة الماضية؛ لأنّ هذه لم تكن تعاني في زمنها النّقصَ الفادحَ في القيم الذي تعانيه الثقافة اليوم.

بل نحن واجدون في التّاريخ الثّقافيّ العربيّ صورًا مشرّفة للاعتراف لا نعثر، اليوم، على نظائرَ لها أو أشباهِ نظائر. وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أنّ مشكلات الثّقافة العربيّة، اليوم، وأزْماتها تجد تفسيرها في عوامل الحاضر: المجتمعيّ والثّقافيّ، وأنْ لا شأن للموروث بتوليدها فيها.

ثمّة وجوهٌ وتجلّيات عدّة لمشكلة غياب الاعتراف في الثّقافة العربيّة سنكتفي بالإشارة إلى ثلاثةٍ منها رئيسة:

أوّلها في علاقة قسمٍ كبير من المثقفين والكتّاب والمؤلّفين العرب بالثّقافة الغربيّة، والثّقافات في العالم عمومًا؛ إذِ الغالب عليهم عدمُ إبداء أيّ اعتراف بقيم تلك الثقافة وفتوحاتها المعرفيّة، بل تجاهلها وإبداء التّشنيع والنّكير عليها. ويقع ذلك حتّى لدى أولئك الذين يستفيدون من بعض ثمراتها الفكريّة، ولكنّهم يأبون على أنفسهم الاعتراف لها بجميل أثرها. أمّا الدّاعي إلى الإنكار وعدم الاعتراف فالوهمُ بالكفاية الذّاتيّة من العلم والمعرفة، وبقدرة الموروث الثّقافيّ الإسلاميّ على تزويدنا بحاجتنا من الأجوبة، أو من المواد القمينة بالاستثمار لتكوين أجوبةٍ عن إعضالات الواقع والمجتمع والحياة. والمشكلة في أن هذا الجسم الثّقافيّ، المنكِر للاعتراف بالآخر، هو الأضخم حجمًا في المجتمع الثّقافيّ العربيّ، وخطابُه هو الأشدُّ فُشُوًّا والأوسعُ انتشارًا من غيره. وإلى ذلك فهو لا يكتفي بأن يرسّخ وعيًا إنكاريًّا للغرب لدى متلَقّيه ويمنع، بالتّالي، من تكوُّن قيمة الاعتراف في ثقافتهم الجمِعيّة، بل يزيد على ذلك بتنمية روح الكراهيّة للآخر، والنّظر إلى قِيَمه بحسبانها تمثّل خطرًا على الهويّة والشخصيّة وشرًّا مستطيرًا ينبغي دفْعُه.

وثانيها في علاقة قسمٍ آخر من المثقّفين والكُتّاب العرب بتراثهم؛ حيث يجحدونه ويُزرون به ولا يحملون تجاه قيمه المعرفيّة ومكتسباته الفكريّة أيّ اعتبار، بلْه اعتراف. أمّا حجّتهم في إنكاره فالوهم بأنّ من أحكام الحداثة اطِّراح ما كَـتبَه الأقدمون، والبحث عن أجوبة العصر والآن في الثقافة الغربيّة بما هي "وحدها" الثقافة "الكونيّة". وهكذا، إذا وقع حديثُ مّا عن العقل، نُسِب هذا إلى الثّقافة الغربيّة، حصْرًا، ونُفِيَ أيُّ قولٍ بأنّ لهذا تاريخٌا في تراثنا.

وإذا دار كلامٌ على التّسامح، وُجِد مَن يقطع بأنْ لا تراثَ له في تاريخ الإسلام، وأنّ التّسامح الحقيق هو ما تمخّضت فلسفتُه في الغرب عن الحروب الدّينيّة. وإذا قيل إنّ قدرًا من الرّوح التّجريبيّة وُجِد في التّراث العربيّ، بدليل نهضة العلم الطبيعيّ في تاريخ الإسلام، رُدَّ على ذلك بأنّ التّجريبيّة وليدة العلم الأوروبيّ الحديث في القرن السّابع عشر. وقس على ذلك من ألوان الزّراية بالتّراث واحتقاره وإنكاره.

أمّا ثالثها ففي علاقة المثقّفين العرب المعاصرين بين بعضهم: علاقتُهم بمَن سبقهم وعلاقتهم بمن يُعاصِرهم أو يُجايِِلهم. تخلو هذه العلاقة من فضيلة الاعتراف. كلٌّ يحاول أن يوحيَ أنّه صاحبُ قولٍ ورأي، أو هو الأسبق إليه. مَن قال به من السّابقين تُجُوهِل أو أُعرِضَ عنه فلم يَرِد له ذكرٌ أو إشارة في صحائفهم؛ أمّا من ردّده من المعاصرين أو سَبَق إليه أو توسَّع فيه فيُمْحى ذكرُه، فلا تَجد من مصادر المتجاهِل التي يحيل إليها، مثلاً، غير كتبه ومقالاته وبعضٍ من الأعلام التي لا يجترئ على تجاهُلها لأنّها سيّارة. ولكن مهلاً، كيف يمكن لقيمة الاعتراف أن تنشأ ثمّ تنمو في بيئة ثقافيّة لا يقرأ فيها زيدٌ لعمرو، ولا يعترف لنصّه بالحقّ في أن يكون من مقروءاته؟ وحتّى على فرض أنْ قد قَرَأ، كيف لها أن تنمو في بيئةٍ أهلُها (المثقّفون) مصابون بداء النّرجسيّة العضال؛ حيث القضيّة عندهم ليست المعرفة، بل إشباع نَهَم الذّات إلى ذاتها، وإرواء عطش الأنانيّة؟

ما من شيءِ يهدّد الثّقافة العربيّة، اليوم، بتصلُّب شرايينها وانسداد مجرى ماء الحياة فيها مثل هذا التعصُّب المَرَضيّ للذّات؛ مثل هذه النّرجسيّة المغالية التي تأخذنا إلى قيم الإنكار، وتمنعنا من تذوُّق طعم الاعتراف والاستفادة من ثمْراته في نسيج المعرفة والثّقافة. ليس الاعتراف طقسًا أخلاقيًّا واجبًا، فحسب، وإنّما هو – فوق ذلك – حاجة ثقافيّة ومعرفيّة لترسيخ قيم النسبيّة والتّاريخيّة في الإنتاج الفكريّ، ولترسيخ قيم التّبادل الثّقافيّ، بل والتّضامن الثقافيّ في مجتمع المثقّفين. وغنيٌّ عن البيان أنّ تحْليّةَ النّفس بهذه القيمة لا تكون من غيرِ ثقافةٍ، أعني من غير اطّلاع على فلسفة الاعتراف؛ لكنّها لا تحصل – بالتّلقاء – لمجرّد قراءة نصوص هذه الفلسفة، بل تقتضي من المرء دُرْبَةً على هذه القيمة ومِراسًا يَنتقلان بها من حيّز الفكرة إلى نطاق الشّعور وساحة الأخلاق؛ إلى حيث يستنبطها المرءُ في سلوكه الثّقافيّ.