بإعلان التوصل إلى اتفاق سياسي بين السودان وإسرائيل، ونية الطرفين توقيع اتفاقية استعادة العلاقات بينهما برعاية الولايات المتحدة الأميركية، فإنه من المتوقع أن تصدر موجة من المواقف والآراء المناهضة لهذه الاتفاقية، تصدر بالذات من الجهات المتضررة من التغيير الاستراتيجي الذي قد يصيب الموقع والموقف الجيوسياسي للسودان في المدى المنظور.

فهذه الجهات التي كانت تعيش على الحالة الصراعية مفتوحة الأفق في المنطقة. أي الإسلاميين المتشددين والقوميين الإيديولوجيين والتنظيمات العنيفة العابرة للحدود، هذه التشكيلات التي ذاق السودان بالذات من تبعات أفعالها على حياته العامة بمرارة خاصة، فالسودان خلال العقود الماضية، بفعل خيارات أنظمته الحاكمة، كان الحديقة الخلفية والمفضلة لتلك التنظيمات.

بدأت دولة السودان انخراطها في الملف الإقليمي عام 1967، حينما استضافة الخرطوم "قمة اللاءات الثلاث، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف" الشهيرة، عقب هزيمة "حرب الأيام الستة" في صيف ذلك العام. السودان وقتئذ كان يعيش نظاماً سياسياً مدنياً ديمقراطياً خاصاً، بعد سنوات قليلة من الاضطرابات السياسية التي تلت الاستقلال عام 1956.

لكن ميول السودان للدخول في نادي التصعيد الناصري في ذلك العام، كان بداية أولية للإطاحة بخصائص نظامه السياسي الخاص.

فالخطاب السياسي المغلق الذي تبته السودان عبر تلك القمة لم يكن دون إفرازات كُبرى، على رأسها استقطاب البلاد بين القوتين السياسيتين المتصارعتين، الشيوعيين والقوميين، وتفاقم أزمة الجنوب على شكل حرب أهلية مفتوحة، الأمر الذي مهد الطريق للعسكريين بقيادة جعفر النميري لأن يقودوا الانقلاب الثاني في البلاد، بعد أقل من عامين من تلك القمة.

كانت الحروب الأهلية مستمرة في ظلال حُكم العسكر الطويل، إن بين الجهويات والأقاليم السودانية والمركز، بين مناطق الجنوب وكردفان والنوبة ودارفور والسلطة المركز، أو بين القوى السياسية السودانية الداخلية، بين الشيوعيين والإسلاميين القوميين. حيث مجموع هذه القوى كانت متوافقة فيما بينها أن السودان يجب أن تبقى كياناً ذات هوية تصعيدية في المنطقة، دون اعتراف بالطبيعة الخاصة والمركبة لهذه الدولة.

لم تتمكن الحكومات "الديمقراطية" الخمسة خلال فترة الحُكم المدني الثالث (1984-1989) من إنجاز تحول جوهري في الحياة السودانية. إذ بقي الصراع الداخلي السوداني، مع الجنوب بالذات، يستجر نزعات وخطابات إيديولوجية تفتقد لشجاعة الوقوف أمام مشاكل السودان الحقيقية، الأمر الذي أدى لأن يستغل الإسلاميون/العسكريون من تنفيذ انقلابهم الشهير عام 1989، وأدخلوا السودان إلى مساحة الدول والكيانات "المارقة"، حيث يسعى النظام الحاكم لأن يستنبط شرعيته وقوته من مدى مشاكسته للاستقرار الإقليمي والدولي.

خلال العقود الثلاثة لحُكم الإسلاميين العسكريين هؤلاء بقيادة عمر حسن البشير (1989-2019)، فإن السودان صار مرتعاً لكل أنماط التصعيد والمعاندة، التي ما أنتجت شيئاً خلا تدهور أحوال البلاد الاقتصادية والأمنية والحياتية، حتى صار ذلك البلد الطافح بالخيرات من أفقر بلدان العالم وأكثرها هشاشة واستقراراً اجتماعياً.

فخلال هذه السنوات كانت السودان مركزاً لحركة حماس ومؤيداً سياسياً وأمنياً لحزب الله ودولة إيران، إلى جانب استضافة إرهابي عالمي مثل أسامة بن لادن وآخر مثل كارلوس، طبعاً مثل تحوله إلى مساحة لتدريب التنظيمات المتطرفة وتزويدها بالأسلحة. الأمر الذي عرض الدولة لسلسلة من الهجمات والعقوبات الدولية، دفع المجتمع السوداني وحده أثمانها من حاضره ومستقبله.

يسعى المناهضون السودانيون لهذه التوجهات الجيوسياسية السودانية الجديدة لأن يستعيدوا كل ذلك، وذلك على ثلاثة مستويات.

فالنخبة العسكرية/الإسلامية التي مكنها حُكم حسن البشير الطويل من الإمساك بكل مفاصل الدولة السودانية وخيراتها، يسعون لمناهضة هذه الاتفاقية والتوجهات متطلعين لإعادة السودان إلى حُكمهم البائس، لتتمكن طبقة الواحد بالمائة من التمتع بكل شيء، واستمداد شرعيتها من علاقاتها وروابطها الإقليمية، بالذات من الدول والتنظيمات المتطرفة، في الإقليم وعبر العالم.

يوازي القوميون المحليون السودانيون ذلك التطلع الذي ينهض به العسكريون الإسلاميون. فالأحزاب القومية السودانية، التي كانت ترى نفسها بديلاً عن الحُكم العسكري، لا تملك أية رؤية شجاعة لحاضر ومستقبل السودان، خلا بعض خطابات الرفض الخُلبية، التي ما تزال تشبه شعارات قمة 1967، دون أية مضامين ووعي لأحوال البلاد وحقيقة ما تعانيه من تدهور في كل مفاصل الدولة والحياة العامة. كانت لمثل هذه الأحزاب فرصة ما، لو كانت أنظمة مثل نظام القذافي وصدام حسين والأسد في أفضل أحوالها، لكنه غدر حركة التاريخ بهم.

على جنبات ذلكم التيارين، تبقى دول مثل إيران، وحركات مسلحة مثل حزب الله، تستخدم كافة الأدوات الإعلامية والسياسية والأمنية التي تملكها للإطاحة بالتوجه السوداني الحديث، لأن يفقدها دولة مركزية وكبيرة كالسودان، ويكشف الكثير من أدوات فعلها التي كانت تمارسها اعتباراً من ذلك البلد، وأولاً على حساب مواطنيها، حاضرهم ومستقبلهم.