على الرغم من أزمتها البنيويّة الحادّة، استمرت حركة عدم الانحياز في الوجود وفي عقد مؤتمرات دولها، حتّى اليوم، وقد بلغت قممُها الثّمان عشرة دورة، وقاربَ عدد أعضائها المائة وعشرون دولة. ومع ذلك، لم يبق من فكرة المجموعة إلاّ الاسم الذي تحمله (=عدم الانحياز) بعد أن فَقَد معناهُ، تمامًا، حتّى لا نقول: بعد أنِ انقلب إلى ضده!

هكذا انتهتِ الفكرةُ الجنوبيّة، كفكرةٍ استقلاليّةٍ تحرُّريّة، وكمحاولة صعبة نحو تأليف منظومة عالميّة جديدة تَجِدُّ في اجتراح توازنٍ في العلاقات الدّوليّة بين الأقطاب الكبار في النّظام الدّوليّ، إلى حيث تكسّرت موجاتُها على صخرة التحوُّلات الكبرى التي عصفت بالعالم، منذ نهايات عقد الثّمانينيّات، ولم يبْق منها غيرُ ذكرى تُبْعث، بين حينٍ وآخر، في مؤتمراتٍ ذات طابعٍ احتفاليّ وغير نافذة القرارات.

ما من قضيّةٍ كبرى جامعة، وما من هدفٍ مشتَرك، يلحم دول عدم الانحياز ويصنع اسمنتًا لكيانها أو يزوّد مؤسّساتها بوقود الاشتغال؛ مثلما كانت عليه حالها منذ "مؤتمر باندونغ" (1955) حتّى مطالع السّبعينيّات.

الخلافُ بين دولها، اليوم، هو القانون النّاظم؛ وهو يسري في كلّ شيء تقريبًا، بل يُحدِث فيها الشّروخ والاصطفافات الداخليّة، ويُفقِرها من الشّعور بالمشترَكات.

لا غرابة، إذن، في أن يتضاءل دورها إلى حدود الاختفاء، وأن تتآكل روابطُ التّضامُن بين أعضائها، وأن تصبح قضايا الجنوب تُبْحث في كلّ محفَلٍ في العالم إلاّ في محفلها، وأن تُتَّخذ في شأنها القرارات إلاّ في رحاب مؤسّساتها !

لم يبدأ انحسار مدّ المنظومة الجنوبيّة – وحركة الانحياز بالذّات – غداة نهاية الحرب الباردة وزوال الثّنائيّة القطبيّة في النّظام الدّوليّ -على نحو ما يذهب إلى ذلك كثيرٌ من الدّارسين للعلاقات الدّوليّة – بل إنّ إرهاصات ذلك الانحسار أطلّت منذ وقتٍ مبكّر من سنوات السّبعينيّات.

ومردّ ذلك إلى أسباب عدّة يُهمّنا منها، هنا، ما يتعلّق بمضمون الحركة (=عدم الانحياز) والمآلات التي آل إليها، بعد توقُّف اندفاعة صعوده الأولى، ومنها تفكُّك رابطة الاستقلاليّة الذّاتيّة (لدول الجنوب) والسّقوط المتدرّج في لعبة الاصطفافات الدّوليّة.

أصيبَت فكرةُ عدم الانحياز، أو الاستقلاليّة، بضربةٍ في الصّميم نتيجة فشل منظومة الجنوب في تحصين داخِلِها السياسيّ من الاختراق الخارجيّ لأقطابٍ وقوًى كبرى.

كان الجنوب، منذ ميلاد منظومته في منتصف السّتّينيّات، موضوعَ صراعٍ عليه بين الغرب والشرق – ودولتيْه العظمييْن خاصّةً – للاستيلاء على قراره، أو كسب جانبه، أو تحويل قسمٍ منه إلى حديقةٍ خلفيّة.

وإذْ تَوَسَّل المتصارعون في صراعهم عليه وسائل التّرغيب (المساعدات، التّسليح...) والتّرهيب (الضّغط)، مستغلّين ما يرزح الجنوب تحت نيره من مشكلاتٍ في مضمار التّنميّة والبناء الاجتماعيّ ونزاعات الحدود... – فقد أمكن لهم في النّهاية، وبدرجات في النّجاح متفاوتة، أن يستدرجوا دول الجنوب إلى الانتظام تحت سقوفهم السّياسيّة و، أحيانًا، إلى الوقوع تحت إملاءاتهم التي كان يُخشى أن يمانعها أحدٌ لئلاّ يلحقه العقاب (وقف المساعدات، وقف التّسليح، مراجعة برامج التّعاون، دعم الخصوم لمزيدٍ من الضّغط، حجب القروض...).

هكذا كانت دول الجنوب تفقد، في هذه العلاقات بالدّول الكبرى، رويدًا رويْدًا، قدرتَها على حماية استقلاليّة قرارها، ومنزعها إلى عدم الانحياز، لتجد نفسَها منتظمةً تحت هذا السّقف الدّوليّ أو ذَاك.

أخذت هذه السّيرورة من "إعادة التأهيل" فترةَ عقدٍ ونصف، ولم تكنِ الحربُ الباردة قد وضعت أوزارها والتّوازنُ في النّظام الدّوليّ قدِ اختلّ، حتّى تهيّأتِ الأسبابُ كافّة لمبارحة دول الجنوب سياساتها الاستقلاليّة.

وما من شكٍّ في أنّ السّيرورة الانحداريّة لفكرة عدم الانحياز شهدت على اندفاعتها الكبرى بعد نهاية الحرب الباردة؛ وبيانُ ذلك أنّ التّوازن الدّوليّ التّقليديّ بين العظمييْن ومعسكريْهما – إبّان الحرب الباردة - مثَّل، لمنظومة الجنوب، الغطاء الضّروريّ لحِفظ بعض توازُنِها واستقلاليّتها؛ وأنّ زواله، بالتّالي، أتى يرفع عنها ذاك الغطاء، بالتّبِعة، ويضعُها تحت رحمة نظامٍ جديد من الواحديّة القطبيّة.

وإلى ذلك فإنّ انتصار الغرب، في الحرب الكونيّة الباردة، لم يكن انتصارًا عسكريًّا بمقدار ما كان انتصار النّموذج الاقتصاديّ – السّياسيّ فيه. هكذا أصبح انضمام دول الجنوب، تباعًا، إلى النّموذج ذاك تعبيرًا رسميًّا عن مغادرتها موقعَها الذي كانت تبحث فيه عن نموذجها الخاصّ. والأهمّ من ذلك أنّها غَدَت مدعوّةً إلى أن تدفع أثمان التحاقها بمعسكر الدّول الآخذة – منذ عقود وقرون – بذلك النّموذج؛ وأوّل تلك الأثمان فكرة عدم الانحياز التي لم يعد من معنًى لها في عصر العولمة.