أضحت منطقة شرق البحر المتوسط حلبةً للتنافس المَحمُوم على الطاقة خاصة بعد الاكتشافات الأخيرة لحقول الغاز التي قُدرت وفقا لمصادر عديدة بـ130 ترليون قدم مكعب.

وما يُفَاقم من حدة التنافس ويزيد من فرص الصراع هو تداخُل الحدود البحرية لمعظم، إن لم يكن كل الدول المشاطئة للبحر شبه المغلق الذي وسِم في العصور الغابرة بـ"بحر الروم"، وأضحي بفعل الفاعل التركي "بُحيرة الأفيال المتصارعة"، ويكفي تدليلا في هذا السياق أن الدول العظمي وغيرها التي أرسلت بوارجها وغواصاتها إلى "بُحيرة الأفيال المتصارعة" ناهزت العشرين دولة أوربية وأميركية وغيرها من الدول.

الشاهد أن التحركات والمناورات العسكرية الكثيفة في شرق البحر المتوسط بهذا الحجم والتواتر والتقاطع تٌعد أمرا نادر الحدوث، وما يزيد الأمر حرجا وتفاقما تعدد الفرقاء الذين خاضوا غمار حروب مدمرة في القرون الغابرة، والمواجهة العسكرية المحتدمة بين الجارين العدوين اللدودين، تركيا واليونان، في عام 1974 ليست غائبة عن الأذهان، واللتان اقتربتا من اندلاع حرب بينهما في عام 1996 بسبب جزيرتين واقعتين في بحر إيجة تتنازع عليهما الدولتان من أجل بسط نفوذيهما عليها.

نافل القول إن تحول الصراع على ثروات النفط والغاز وغيرهما في البحر المتوسط إلى مادة ملتهبة، تزيد من أسباب النزاعات والخلافات على المصالح من النزاع التاريخي والقانوني قديم العهد بين دُوله إلى الصراع المنفجر حديثاً بين تركيا من جانب، وكل من اليونان وقبرص من جانب أخر.

"منذ الحرب اليوغوسلافية 1992-1995 لم تُخبّر القارة العجوز بمثل ذلك الانسداد والصراع المحموم"

 لقد وطأت تركيا تحت نعالها مبادئ القانون الدولي العام والقانون الدولي للبحار، فأقدمت على إبرام اتفاقية لتعيين الحدود البحرية بينها وبين الجيب الانفصالي في شمال الجمهورية القبرصية والذي وسمته تركيا بالجمهورية القبرصية التركية، ووصمته الجماعة الدولية بالجيب الانفصالي غير الشرعي، ثم أقدمت تركيا وأعادت الكَرّة ثانية، ولكن في هذه المرة مع الحكومة المُنصّبة من منظمة الأمم المتحدة في طرابلس، وأبرمت معها في شهر نوفمبر عام 2019 مذكرة تفاهم لتعيين الحدود البحرية بين البلدين الساحليين غير المتقابلين وغير المتجاورين أيضا في سابقة خطيرة لم تحظ إلا برفض دولي عارم.

أخطأ من نعت الصراع الدائر الآن في "بحيرة الأفيال" بالصراع المكتوم، بين دول البحيرة المشتعلة لتنافس دولها على هذه المَكامِن التي تحتوي على احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي، فالرهان التركي في شرق المتوسط لم يعد اقتصاديا وحسب، ولكن أضحت سياسة الأمر الواقع ودبلوماسية البوارج الحربية التي دشنها الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" منذ طرد حفار شركة إيني الإيطالية في شهر فبراير عام 2018، ديدنا تركيا يجاهر به ويناور دون رقيب أو حسيب، منتفعا بورقة صفراء هي ورقة اللاجئين السوريين وغيرهم التي تُرجِف الفرائد الأوربية وتُروّع أفئدتها.

لا مِرية أن القارة العجوز "أوروبا" لم تكن لتتمنى هذا الكابوس الذي يقض مضاجعها، والمتمثل في الرئيس التركي الذي صار الشر المستطير والانفلاق الخطير في حوض المتوسط، فمنذ الحرب اليوغوسلافية 1992-1995 لم تُخبّر القارة العجوز بمثل ذلك الانسداد والصراع المحموم، فقد حَزُب الأمر وتقطعت السبل وانعدمت الوسائل الفاعلة لإثناء السلطان التركي عن غزواته العنترية ومقامراته الكارثية في شرق البحر المتوسط، وأخفقت العقوبات الهزيلة التي فرضها الاتحاد الاوروبي على الأشخاص والشركات التركية التي قامت بالتنقيب في المياه القبرصية هذا العام، فثبت للقاصي والداني أنها لم تُغن أي فتيل.

يوما تلو الآخر ثبت أن احتواء الطاعون الأسود التركي في البحر المتوسط أمرا مستعصيا، وثبت أيضا أن النمر التركي ذاته مُحال أن يغير رَقطه، فصار الزحف التركي ورمًا خبيثًا، وأضحى التوسع التركي أيضا بؤرة سرطانية ضارة بكل جيرانها في بحر إيجة والبحر المتوسط.

صدق العرب حين ابتدعوا أقوالهم المأثورة التي كشفت عن سابقات وأماطت اللثام عن حادثات، والقول العربي المأثور الذي يحاكي الحال في "بحيرة الأفيال" هو "معظم النار من مستصغر الشرر"، والشرر المشترك كان ولا يزال السلطان التركي الذي لا يزال يتحرش باليونان وقبرص وحاول التحرش بمصر فردته من فورها، وأرغم بتصرفاته الخرقاء فرنسا على تعليق اشتراكها في العملية العسكرية الأوروبية الخاصة بفرض الحظر على ليبيا.

الشاهد في هذا الصدد أنه خلافا لمعظم جيران تركيا في القوقاز والشرق الأوسط والبحرين الأسود والمتوسط، فإن تركيا فقيرة في الطاقة الأحفورية، ويمثل استيراد الغاز عبئا يُثقل كاهل الميزان التجاري للبلاد، كما أن تركيا تفتقد للاحتياطات البترولية وهي بحاجة إلى زيادة وارداتها السنوية البترولية نظراً لضخامة وتطور صناعاتها.

وهذه المزية التي حباها الله لجيران تركيا لا يمكن وصمها في الوقت ذاته جرما ارتكبه جيران تركيا، أو ضررا ألحقوه بها حتى تسول لها هذه السياسة التوسعية التي أضحت تمثل لتركيا النزعة والباعث والمنطلق.

جلي أن تركيا التي عطشت للدماء بل وسفكتها في العراق وسورية وليبيا، تتعطش أيضا للطاقة في المنطقة، وشكلت علاقاتها المتوترة مع كل جيرانها في بحر إيجة والمتوسط ناقوس خطر لا ينبئ إلا بالكوارث والمصائب، في ضوء السياسات النفعية للدول العظمي التي آثرت حتي الآن العزوف عن ردع السلطان المتوغل في "بحيرة الأفيال"، وهذه الدول العظمي لديها الوسائل الزجرية التي تستطيع بواسطتها أن يستعيد البحر المتوسط سيرته الأولى كأبرز مثال للتعاون بين الحضارات، والشعوب، والأجناس المختلفة.