بمعنى ما، فإن إعلان حكومة الوفاق الليبية عودة وزير الداخلية الأسبق فتحي باشا آغا إلى منصبه هو تكريس لازدواجية السلطة في مناطق النفوذ التركية في ليبيا، وأن رئيس الوزراء فايز السراج لم يعد مصدر السلطة والفاعلية الوحيدة في مناطق سيطرة حكومته.

صارت السلطة السياسية والعسكرية في تلك المنطقة مقسمة بين جناحي السراج وباشا آغا، ولا يمكن تنفيذ أية سياسة استراتيجية دون توافق هذين التيارين الحاكمين.

سبق ذلك ثلاثة أحداث سياسية متتالية، جرت بين حليفي تركيا الليبيين، شكلت معاً المقدمات السياسية المنطقية لتكرس هذا التموضع: في العشرين من شهر أغسطس الفائت، أعلن السراج موافقة حكومته على وقف شامل لإطلاق النار مع الجيش الوطني الليبي، في استجابة للحل السياسي من طرف، وخشية من تدخل مصري/عربي/أوروبي من طرف آخر، لكن دون موافقة وتنسيق مع تركيا. وهو أمر أثار حنقها عليه، تركيا التي تعتبر نفسها صاحبة الفضل في بقائه واستمرار حكومته في غرب ليبيا.

كردة فعل أولية على ذلك، دفعت تركيا بأقرب الشخصيات داخل حكومة السراج إليها، وزير الداخلية فتحي باشا آغا، لإثارة القلاقل بوجه حكومة السراج، بالذات عبر الصِدام مع الشارع في العاصمة طرابلس، الأمر الذي أعتبره السراج مناسبة للتخفيف من السطوة التركية، فأوقف باشا آغا عن مهامه في الرابع والعشرين من شهر أغسطس نفسه، وحوله إلى التحقيق.

لكن عوضاً عن الالتزام بالقرار الحكومي، فإن وزير الداخلية سافر إلى تركيا، وعقد سلسلة من الاجتماعات مع المسؤولين الأتراك، ثم عاد إلى ليبيا واستقبلته أجهزة وزارة الداخلية عبر عرض عسكري، في تحدٍ واضح لسلطة الحكومة. لم يمضِ أسبوع واحد، حتى عاد باشا آغا إلى موقعه، وتكرست ثنائية السلطة وتناقضها الداخلي.

الرسالة التركية في ذلك المنحى ثنائية التوجه.

إذ تقول، من طرف، إن أي شخصية أو حكومة أو سلطة في مناطق نفوذها لا يمكن لها أن تكون مستقلة بأي شكل، وبالتالي ليس لها أن تكون سلطة حقيقية. فالسلطة الفعلية هي لصاحب النفوذ الاستراتيجي، تركيا.

من طرف آخر، فإن ديناميكية تركيا في مناطق نفوذها تعتمد على شبكة واسعة من المراكز، منها ما يمثل الشرعية الدولية، مثل رئيس الحكومة فايز السراج، ومنها ما يعتمد على عنف المليشيات، مثل وزير الداخلية النافذ في سلطته على ميليشيات منطقة مصراتة، ومنها ما هو اقتصادي وخدمي، مثل مئات الشركات التركية المستولية على الحياة العامة في تلك المنطقة.

وبالتالي، فإن تركيا هي وحدها القادرة على تحريك أي من مراكز القوة هذه، لمناهضة وكبح أي جناح آخر داخل السلطة نفسها، فيما لو "شذّ" عن برامج النفوذ التركي. وبالتالي فإن تركيا هي السلطة الوحيدة، لأنها الوحيدة القادرة على منع أي جناح أو تطلع داخل السلطات التنفيذية من استحواذ أية آلية أو قدرة على الاستقلال أو تخطيط الاستراتيجيات الخاصة.

بالضبط تماماً، يُمكن سحب ذلك المشهد الليبي، من حيث علاقة النفوذ التركي مع الفاعلين "الوطنيين"، إلى ما يناظره من الأحداث السورية.

عسكرياً، ثمة على الدوام تشكيلان عسكريان متصارعان في كل منقطة من مناطق النفوذ/الاحتلال التركية على الأراضي السورية، تشكيلات مثل فرق الحمزات والعمشات في عفرين ومنطقة تل أبيض ورأس العين، أو الجبهة الشامية والجيش الوطني في محافظة إدلب.

هذه التنظيمات غير المتناقضة إيديولوجياً أو سياسياً، لكنها جميعاً خاضعة لآليات العمل التركية، التي تتحكم بها عبر توازن الرعب فيما بينها، بحيث تستطيع أن تُضعف، أو حتى تمحق، أي واحدة منها، عبر دعم المنافس النظير لها. وهي تعمل على الدوام على تغايير موازين القوة فيما بينها، بحيث لا يكون بينها أي طرف قادر على العمل العسكري دون التغطية التركية.

سياسياً، تفعل ما يطابق ذلك تماماً، فالشخصيات والقوى السياسية السورية المنخرطة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، المُلحق بالاستراتيجية السياسية التركية تجاه سوريا، ثمة دوماً بداخله تيارات وشخصيات متصارعة فيما بينها، دون أي مضمون أو خلاف سياسي حقيقي، لكن فقط ثمة محرك داخلي يفاقم من تلك الصراعات الداخلية، ويعتبرها الأداة الأهم للتحكم برؤية وآلية عمل الائتلاف، وبالتالي ضمان موالاتها وتبعيتها لتركيا.

هكذا تنشط الآلية التركية في كافة مناحي ومراكز نفوذها الإقليمي، في أفريقيا والقوقاز والبلقان، وحتى ضمن الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبية.

من هذا التوجه التركي، يُستدل على أربعة نتائج، تُعتبر وترسم مجتمعة هوية النفوذ التركي وشكل علاقته مع اللاعبين في مناطق تدخلاته.

حينما لا يميز هذا النفوذ التركي بين مختلف الأجنحة ويلاعبها كلها، فهذا يدل على أنه أولاً مشروع دون أية قيمة مضافة، سياسياً وإيديولوجياً، حتى أنه خال من أي مضمون "تناضل" في سبيله وتفضل الحلفاء حسبه. بمعنى آخر، فإن المشروع التركي في مناطق النفوذ هو مشروع دون قضية عمومية، وأن السلطة والهيمنة المحضة هي مضمونه الحقيقي.

ثانياً، يدل على أنه لا وشائج حقيقية بين تركيا وتابعيها "الوطنيين" في مناطق نفوذها، طالما تركيا مستعدة للتضحية الدائمة بهم، بل ومحقهم، لو تطلبت المصلحة التركية ذلك. وطبعاً هُم مستعدون للخروج عن التنسيق مع تركيا.

لا تملك تركيا أية مشكلة للمصالحة والتواطؤ مع من تصارعهم في مناطق نفوذها، طالما هي تصر على الإضعاف التام لحلفائها المحليين. فتركيا ربما تمنع السراج أو الفصائل السورية التابعة لها من الدخول في مساومات سياسية مع نظرائهم المحليين، لكنها مستعدة للدخول في صفقات إقليمية ودولية، وإن كان على حساب هؤلاء "الحلفاء".

أخيراً، فإن شكل العلاقة التركية هذه، تكشف الهوية والنزعة العصاباتية لهؤلاء الحلفاء، الذين لا يملكون مشكلة أخلاقية أو سياسية للانقضاض على شركائهم الوطنيين، لحساب النفوذ التركي. وبالتالي استعدادهم التام لتفضيل المصالح التركية على ما قد يكون مصلحة محلية.