بثت وسائل الإعلام اليونانية حوارا جانبيا بين وزيرة الدفاع الألمانية وممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، سجلته ميكروفونات الاجتماع دون أن يدريا بأنها مفتوحة، بينما هما في استراحة من اجتماعات وزراء الدفاع والخارجية لدول الاتحاد الأوروبي في برلين.

وفي السجال يبدو أن جوزيف بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية وسياسة الأمن بالاتحاد الأوروبي يستعجل الوساطة الألمانية لتخفيف التوتر في شرق المتوسط، مع إصرار تركيا على نشر سفنها في المياه التي تخص اليونان وقبرص، وترد وزيرة الدفاع الألمانية أنغريت كرامب- كارنباور، بأن الموضوع "صعب جدا".

ما الصعوبة التي تجعل دول الاتحاد الأوروبي، باستثناء فرنسا وربما إيطاليا إلى حد ما، تضغط على شركائها في الاتحاد (اليونان وقبرص) وليس على المتعدي (تركيا أردوغان) الذي يشترك معها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟

ورغم أهمية تركيا في الناتو فإن ذلك ليس سببا كافيا لهذا الموقف غير الحاسم، الذي يميل إلى تجاهل طلب اليونان بفرض عقوبات على تركيا بسبب انتهاكها لمياهها الإقليمية، بنشر سفن حربية فيها ترافق سفينة تنقيب عن الغاز.

ومعروف أن تركيا ليست موقعة على ميثاق الأمم المتحدة لقانون البحار الذي ينظم رسم الحدود البحرية، من المياه الإقليمية إلى مناطق المياه الاقتصادية الحصرية، التي تعطي الحق لليونان في مطالبها وما استند إليه أيضا في ترسيم الحدود البحرية بين اليونان ومصر الذي أثار جنون أردوغان.

واستنادا إلى الغزو التركي لشمال جزيرة قبرص عام 1974، وتقسيم الجزيرة المدان دوليا ولم يعترف به أحد في العالم، يدعي أردوغان أن لتركيا الحق في المياه الإقليمية القبرصية أيضا.

في ظل فك الارتباط الأميركي مع العالم، ترك أمر التوتر في شرق المتوسط لألمانيا لتسويته، ليس فقط لأنها الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، لكن لأن الولايات المتحدة "توزع مهام مصالحها في مناطق العالم"، علما أن آخر تدخل بين اليونان وتركيا كان في 1996 حين وصلت المواجهة بينهما شفا الحرب في بحر إيجة.

ليس سبب "التساهل" الألماني مع أردوغان فقط المخاوف الأوروبية من تهديداته بإرسال الإرهابيين أفواجا إلى أوروبا، سواء عبر حدود تركيا معها أو بالبحر من ليبيا حيث نقل الآلاف منهم. فتلك المخاوف موجودة منذ زمن، وسبق ودفع أردوغان بالآلاف من اللاجئين عبر الحدود البرية والبحرية أكثر من مرة منذ بدء الحرب السورية، فتهديداته الإرهابية ليست جديدة إذا. كذلك، ليس السبب أي حرص أوروبي على احتمال انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بعدما فشلت المفاوضات التي طلبتها تركيا بعد سنوات من التعثر.

هناك عاملان مهمان لدى ألمانيا، ويمكن سحبهما جزئيا على إسبانيا (المتحمس الآخر في أوروبا لتقديم ترضية لأردوغان لحل النزاع مع اليونان)، يجعلان موقفها "مائعا" إلى حد كبير، هذا بالطبع غير العامل غير الأساسي المتعلق بالتنافس التقليدي بين ألمانيا وفرنسا، القوتين الرئيسيتين في أوروبا، حيث تقف فرنسا في وجه الاعتداءات التركية سواء على اليونان وقبرص أو حتى في ليبيا وبقية إفريقيا.

العامل الأول المتعلق بالمانيا، مرة أخرى ليس لأن فيها أكثر من مليوني مهاجر تركي تخشى أجهزتها أن تستخدمهم أجهزة أردوغان، ولأن بينهم متطرفون بالفعل، يعود إلى أنها كانت تحتضن الراحل نجم الدين أربكان الذي عاد منها لتركيا ليؤسس أول أحزاب الإسلام السياسي (الرفاه) الذي استولى عليه منه أردوغان.

وكانت ألمانيا ترى في أربكان "خميني تركيا" (وكان الخميني لاجئا في فرنسا قبل أن يعود لإيران نهاية السبعينيات ويؤسس دولة دينية في إيران)، وتشترك ألمانيا مع الولايات المتحدة وكثيرين في الغرب، يراهنون على ما يعتقدون أنه "أصولية معتدلة" تختلف عن "التطرف الإرهابي"، ويمكن أن تكون قيما أفضل على مصالح الغرب في بلادها.

العامل الثاني ربما بدا ألمانيا، لكن أغلب أوروبا تشاركها فيه وإن بقدر أقل، هو تأثير الحقبة النازية الذي لم تتخلص منه نفسيا تماما، فالشعور بعقدة الذنب يجعل الألمان حريصين جدا على ألا يتهموا بالعنصرية أو باتخاذ موقف على أساس تمييزي ضد دين ما، وهذا ما يدركه أردوغان (وكذلك تنظيم الإخوان الارهابي وجماعاته المختلفة) ويستغلونه ابتزازا يتسق مع طبيعتهم الأصيلة.

ليس متوقعا أن يتفق الأوربيون على شيء فيما يخص عدوان أردوغان على جيرانه، وحتى القمة الأوروبية في نهاية سبتمبر التي ستبحث طلب اليونان، ستغرق في خلاف "الجزرة والعصا" تجاه تركيا، وما من حل في مواجهة الصلف الأردوغاني والعدوان التركي من العراق إلى ليبيا مرورا بسوريا وجيران شرق المتوسط، سوى ما يقرره المعنيون بأنفسهم الذي يتصدرون لخطر الإرهاب في المنطقة، وفي مقدمتهم الرباعية المقاطعة لقطر، ممول أردوغان.