قالوا "وخير القول قول العارفينا **** مخطئ من ظن يومًا أنّ للثعلب دينا"

ما الذي استدعى للمُخيِّلة بيت الشعر هذا لأمير الشعراء أحمد شوقي الأيّام القليلة المنصرمة؟

ربّما يكون الاتّفاق الليبيّ بين مجلسَيْ النوّاب والمجلس الرئاسيّ لحكومة الوفاق والخاصّ بوقف إطلاق النار والعودة إلى المسار السياسيّ نحو تنظيم انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة في الربيع المقبل.

والشاهد أنه ما من عاقلٍ يكره أن يحلّ السلام في ربوع الشقيقة ليبيا، وأصحاب المحروسة بنوع خاصّ يتمنّون في السرّ والجهر أن يسودها الأمن ويعمّها السلام، وأن يلتئم الشمل الليبيّ من جديد من أجل بناء ليبيا موحَّدة ناهضة قادرة على الصعود من وسط ركام عقد كامل من الخلافات والاقتتال الداخليّ.

غير أنّ القضيّة هنا لا ترتكز على التمنّيات، والأماني لا تتحقّق بالتطلُّعات اليوتوبيّة، والحكيم هو من يُبقِي دومًا هامشًا من الشكّ فاليقين المطلق غير موجود في عالم البشر، وسبحانه هو وحده الحقّ المطلق واليقين التامّ أبدَ الدهرِ.

أسئلة عديدة ومثيرة انطلقت في الآفاق منذ منتصف يوم الجمعة الماضي حين تمّ الإعلان عن الاتّفاق، وكيف تمّ التوصل إليه، وهل إرادة السلام تنشأ بين عشية وضحاها، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يستقيم مشهد الإعلان عن مساقات ومسارات سلام على بعد أقل من أسبوع من زيارة وزيرَيْ الدفاع القطريّ والتركيّ، والحديث عن تحويل ميناء مِصراتة الليبيّ إلى السيادة التركيّة، وجعله مركزًا للسيطرة التركية بتمويل قطريّ، والهدف الأبعد من نفط وغاز ليبيا هو جعل مصراتة مركزًا دوليًّا للطاقة، تمنح أو تمنع أوربّا متى تشاء، وتكيد لمجموعة دول الشرق الأوسط المنتجة للغاز تحديدًا وفي المقدّمة منها مصر.

السؤال هنا: "أيّ عاقل يمكن أن يتخيّل أن مثل هذا الإعلان قابلٌ للتحقّق والإدراك بسهولة أو يُسْر؟

جيّد أن يقابل أصحاب النوايا الطيّبة والطوايا الصالحة الإعلان الليبيّ بشيء من الفرح، لكنّه يبقى ممزوجًا بالتوجّس لا سيّما وأن تاريخ الاتّفاقيات بين الجانبين غير مطمئن، فمنذ اتّفاق الصُّخَيْرات العام 2015، وقمّتان في فرنسا 2017 و2019، ولقاء باليرمو في نوفمبر 2018، ثمّ لقاء أبو ظبي في شباط فبراير 2019، وحتّى الساعة لم تفلح الأطراف الليبيّة في التوصّل إلى رؤية سلميّة حقيقيّة.

هل وجود تركيا على الأراضي الليبيّة سببٌ رئيس في تأصيل وتجذير الشكّ في النفوس لجهة الإعلان الليبيّ الأخير؟

من المستحيل وليس الصعب أن يثق المرء في القرار التركيّ لا سيّما في ظلّ رئاسة أردوغان، ولهذا فإن القائمين بوظيفة "محامي الشيطان"، يؤكّدون على أن المسالة برُمّتها ربّما لا تتجاوز مناورة لترتيب الصفوف في العرب وتمكين السرّاج وجماعته ومن لَفّ لفَّه من قوات أجنبيّة للتقدّم والسيطرة على الشرق الليبيّ تاليًا.

التاريخ خير ناصح، وتجارب تركيا في وقف إطلاق النار في سوريا تؤكّد أن أنقرة تجيد المناورة بهذه الورقة، وأنها تريد التهدئة حاليًّا لامتصاص الغضب الدوليّ والإقليميّ.

ولعلّ أولى التفاصيل المسكونة بالشياطين، موصولة بالوجود الأجنبيّ على الأراضي الليبيّة، وهنا يحقّ التساؤل: "عبر أيّ طريق سيُقَدَّر للوفاق أن تطرد الأتراك الذين وضعوا أيديهم على العديد من القواعد في الغرب الليبيّ وأخذوا في بناء مقرّات للدفاع ونصبوا قواعد صواريخ، من سيطرد هذا الجيش الأردوغانيّ الرسميّ، هل السرّاج قادر على ذلك، وإذا لم يكن قادرًا، فأيّ معنى أو مبنى لإعلان يسعى للسلام؟

ثانيًا: ما هو مصير الآلاف من المرتزقة والإرهابيين الذين استقدمتهم تركيا بأموال قطريّة، وقد كان الهدف المؤكّد هو إخلاء سوريا منهم واستبدالهم بقوّات تركيّة لا غِشَّ فيها.

هل سيُقَدَّر للسرّاج لقاء هؤلاء في البحر بعد أن ذاقوا طعم الأموال القطريّة والليبيّة السخيّة؟

تُحدِّثنا تقارير دوليّة عن مليارات الدولارات التي ابتلعتها أنقرة من عائدات النفط الليبيّ، والمخطَّطات التركيّة لبسط المزيد من الهيمنة على هذا القطاع لا سيّما في ظلّ أوضاع اقتصاديّة تركيّة بائسة، ومحاولات أردوغانيّة لا تغيب عن أعين العوامّ لإقناع الشعب التركيّ بأن هناك ثروات من الطاقة في البحر الأسود، وبخاصّة أن الجميع يتذكّر تصريحات فارغة وجوفاء سابقة من النوعيّة ذاتها التي يراد بها مغازلة الشارع التركيّ الذي يُنَفِّض يديه يومًا تلو الآخر من الأغا المحتلّ.

كيف للمرء أن يتخيّل أن تتخلّى تركيا بمثل هذه السهولة عن دورها في ليبيا، وهي كعب أخيل بالنسبة لها لاختراق العالم الإسلاميّ من جديد، وإعادة بناء الخلافة البائدة، عطفًا على إكمال مخطَّط أنقرة بالتوغّل في أفريقيا ومغازلة التيّارات والجماعات الراديكاليّة هناك، كي تصبح قوّة مهمّة في لعبة تقسيم القارّة السمراء ما بين أوربّا وأمريكا والصين.

لم تكد تمرّ أربع وعشرون ساعة على الإعلان الليبيّ، إلّا وفوجئ العالم بميليشيات الوفاق والمرتزقة تقتحم منطقة الأصابع الليبيّة بعشرات السيارات المسلَّحة والمدرّعة، ما استدعى ردًّا سريعًا من الاتّحاد الأوربّي جاء فيه أن العالم ينتظر تحرُّكات لوجستيّة على الأرض توضّح النيّة الحقيقيّة لهذا الإعلان وألّا يكون الأمر مجرّد حبر على ورق وليس أكثر.

مهما يكن من أمر فالمخاض الليبيّ طويل، والاقتناع بأن الإعلان الأخير هو خاتمة الأحزان الليبيّة أمر يتجاوز معطيات الأرض والتي فيها تحوّلت ليبيا إلى ساحة حرب بالوكالة، ومنطلق لمعارك أخرى قائمة وقادمة ضمن مخطَّط أمميّ واسع يمثّل الجزء الثاني من فوضى الشرق الأوسط، مع كل الامل أن نكون مخطئين وتصدق نوايا السلام الليبيّة.. فقط الانتباه رجاءً.