ترتكز قيمة الاعتراف، في أيّ وعيٍ فرديّ كما في أيّ ثقافة، على قاعدة معرفيّة صريحة أو مضمَرة منها تصدُر وعنها تعبّر؛ ومفادُها أنّ من يستبطن قيمة الاعتراف بالآخرين ينطوي وعيُه، في الوقت عينِه، على قدرٍ مّا من التحرُّر من أزعومة حيازة الحقيقة أو هو، على الأقلّ، يملك حِسًّا نقديًّا تجاه هذه الأزعومة تجعله حذرًا من السّقوط في أحابيها.

ومن البيّن أنّ مثل ذلك التّحرّر من وهْم حيازة الحقيقة ليس مُتَاحًا لكلّ من يفكّرون ويؤلّفون، ولا يبلُغُه منهم إلاّ قلّة قليلة تمرّست بالمعارف وعرفت، على التّحقيق، أنّ مثل تلك الحقيقة النّاجزة والمطلقة ضربٌ من التّوهُّم والتّظنُّن لا يقوم عليه دليل: من المعرفة ومن الواقع على السّواء. ويُستفاد من هذا أنّ الكثرة الكاثرة من أهل الرّأي لا تتهيّأ لهم، لهذا السّبب، المقوّمات المعرفيّة لتنميّة قيمة الاعتراف في سلوكهم الثّقافـيّ والفكريّ.

الوجْهُ الآخر للمسألة أنّ رسوخ معتَقَد الحقيقة النّاجزة في وعي المرء يدفع الأخير، دائمًا، إلى الاعتداد بما لديه من معارف، وإلى المنافحة عنها بالوسائل كافّة.

ولقد يخامره الظّنّ، أحيانًا، بأنّه يخوض في حوارٍ مع الآخرين و، بالتّالي، يتخفّف من قيود أناهُ النّرجسيّة، لمجرّد أنّه يدحض آراءهم بما لديه من الحجج والبراهين، التي يستقيها من معتَقده ذاك.

وليس من حوارٍ، على الحقيقة، يخوض فيه مع آخر، بل يكاد "الحوار" أن يشبه مونولوغًا مسترسلاً يتقمّص فيه المخاطَب دورَ المتكلّم، والآخَر مقامَ الأنا. هكذا يخاطب المتكلّم ذاته إذ يخاطِب الآخر، ويمارس - من طريق هذه اللّعبة – تمرينًا ترداديًّا، يردّد فيه يقينيّات هي، عنده، في مرتبة الحقائق القطعيّة المطلقة.

أيّ نوعٍ من الخروج من قفص الذّات، إذن، هذا النّوع من "الحوار" الذي لا يقع بين متناظريْن يتبادلان المُخاطَبَة، بل بين متكلِّم يَعْرِض "الحقيقة" ومُخَاطَب مطلوبٍ منه الإصغاء فحسب؟!

قلنا إنّ مبْنى قيمة الاعتراف على مرتكزٍ معرفـيّ هو نقدُ وهمِ حيازةِ الحقيقة النّاجزة ونبْذُها.

ومعنى ذلك أنّ فعْل الاعتراف يمتكن أمرُهُ مع الوعي بأنّ الحقيقة، دائمًا، نسبيّة، أي أنّ ما نصل إليه في تحصيلنا ليس أكثر من طوْرٍ من أطوار المعرفة، وأنّ المخبوء من حقائق الأشياء والعالم أكثر، بكثيرٍ، من المعلوم منها والمبلوغ. بل من البيّن، لدى المؤمن بنسبيّة الحقائق، أنّ ما قد نَحْسبه حقيقةً، اليوم، ويَقِرُ في نفوسنا أنّها كذلك، سرعان ما قد يُعادُ فيها النّظر، غدًا، حين يَطْعن البحثُ والتّحرّي على وجاهتها، ويكشف حدودَ ما تَقْوى عليه بيِّناتُها ونتائجُها.

وما سيرةُ العِلم، الحديث والمعاصر، مع حقائقه المتغيّرة على نحوٍ دوريٍّ ودائب، إلاّ الدّليل الأفقع على أنّه ما من حقائقَ نهائيّة يمكننا بلوغُها في العلم الطّبيعيّ. وإذا كان الأمرُ كذلك في العلم – وما أدراك ما العلم – فكيف يكون في حال المعارف التي من طبيعة أيديولوجيّة، مثل الإنسانيّات والاجتماعيّات، حين الذّاتُ الدّارسة والموضوعُ المدروسُ واحدٌ: الإنسان، لا انفصال بينهما و، بالتّالي، لا إمكانيّة لتحقيق موضوعيّةٍ في المعرفة صارمة.

أن تكون الحقائق نسبيّةً وغيرَ مطلقة أو نهائيّة، فلأنّها مشروطة؛ تتقرَّر في شروطٍ محدّدة: زمانيّة ومكانيّة ومعرفيّة، وتتولّد من تلك الشّروط. ولأنّها كذلك – أي منتوجَ شروطٍ بعينها – فهي قابلة لأن تتغيّر متى تغيّرتِ الشّروط التي تنشّأتْ في نطاق معطياتها. وعلى ذلك، ليست نسبيّة الحقائق التي يتوصّل العقلُ الإنسانيُّ إليها شيئًا آخر غيرَ نسبتها إلى شروطها تلك. وكلّما توفّرت شروطٌ ماديّةٌ ومعرفيّة أفضل من سابقتها تعاظمت فرصةُ بناء حقائق جديدة أكثر وثوقًا ممّا قبلها، وهكذا دواليك.

نتأدّى من هذا الاستنتاج إلى استنتاجٍ آخر نظيرٍ؛ إذا كان الاعترافُ تعبيرًا عن وعيٍ بنسبيّة معارفنا، فهو تعبيرٌ – بالتّبعة – عن وعيٍ متشبّع بالحسّ التّاريخيّ (= بالتّاريخيّة). حين يعي المرءُ منّا أنّ ما نملُكه من معارف مقترِن بتاريخ محدّد، هو تاريخ الوقائع والمعارف، وأنّ هذا ليس ثابتًا أو نهائيًّا، بل صيروريٌّ ومتغيّر، سيكُفّ – حينها – عن النّظر إلى معارفه بوصفها، وحدها، الصّحيحة وسيُدرِك أنّه قد يجد في معارف غيره وآرائهم ما يحتاج إليه لتزويد مخزونه من المعارف.

إنّ تاريخ المعارف والحقائق ليس واحدًا عند النّاس جميعًا؛ فلكلٍّ منهم حصّةُ منه ونصيب يزيد أو يَقِلّ، ولذلك ما من مندوحة عن التّبادُل المعرفـيّ بينهم يستكملون به النّواقص وغيرَ المُدْرَكات. وهذا لا يكون من غير الإقدام على اعترافٍ متبادَل، وإصغاءٍ متبادَل.