تبدو الجماهير الأميركيّة في الآونة الاخيرة كرعيّة من غير راعٍ، نقول هذا من غير أن نتجنّى على ساكن البيت الأبيض، فالمسألة باتت تتجاوز شخص دونالد ترامب، إلى وضعيّة الرئاسة بشكل عامّ.

وبدا وكأنّ التساؤل الذي يحلّق في الأفق الأميركيّ في حاضرات أيّامنا: "ما هي المواصفات التي تحتاجها الإمبراطوريّة الأمريكيّة المنفلتة بحسب المؤرّخ الأمريكي "بول كينيدي"، للرئيس القادم، والقادر على أن يعيد إليها أَلَقَها الذي تجلّى في سماوات القرن العشرين، في نهايات الحرب العالميّة الثانية، ويوم كان الحلم الأمريكيّ يداعب الجفون قبل النوم، من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن مشرقها إلى مغربها؟

الشاهد أنّ الولايات المتّحدة وعبر العقدَيْن الماضيين، أي منذ بداية ولاية جورج بوش الابن، ومرورا بباراك أوباما وصولًا إلى دونالد ترامب، تعاني من قصور شديد في شخصيّة الرئيس الساكن في الموقع والموضع الذي شَهِدَ يومًا ما رجالاً من عيّنة توماس جيفرسون الرئيس الثالث، أحد الآباء المؤسِّسين الكبار، وإبراهام لنكولن محرّر الزنوج ومُوَحِّد الولايات الشماليّة والجنوبيّة، وصولاً إلى جون كينيدي، رجل السلام الذي دفع حياته ثمنًا لمبادئ لا تتَّسق وروح البراجماتيّة الأمريكيّة التقليديّة.

انطلقت أميركا إلى القرن الحادي والعشرين بتجلّيات المحافظين الجدد، وبتقسيم مانويٍّ للعالم، بين الذين معنا والذين علينا، كما أشار بوش غداة أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والتي اتَّخذَ منها منطلقًا لحروب أفغانستان والعراق، ثمّ حروب الإرهاب، فاقدة المعايير، لا سيّما في ظل عدم المقدرة على تحديد معنى واضح وصريح للإرهاب، أو التفريق بينه وبين المقاومة الحُرَّة التي تكفلها الشرائع السماويّة، والنواميس الوضعيّة.

غاب بوش الابن عن الساحة ليحلّ محلّه باراك أوباما، الذي هلَّلَ له الداني والقاصي، كيف لا وهو الرجل الذي تجرّأَ على الأمل، كأوّل أميركيّ أفريقي يصل البيت الأبيض، غير أنّ حساب الحصاد الأوباميّ جاء منافيًا ومجافيًا لحساب البيدر الذي بَشَّرَ به، وقد ارتكب بعض الأخطاء القاتلة في حقّ العالم، والشرق الأوسط بنوع خاصّ عندما أطلق يد جماعة الإسلام السياسي لتعيث فسادًا تحت عنوان مغشوش "الربيع العربيّ" وفي حقّ أمريكا، حين فضل مبدأ "القيادة من وراء الكواليس"، وفرغ بذلك مربعات نفوذ وقوّة أمريكيّة عديدة، ملأتْها موسكو وبكين في التوّ واللحظة .

والشاهد أنّ الرئيس ترامب كان حجر عثرة لقيام وسقوط كثيرين من الأميركيّين، ولا يزال برؤاه المختلفة عمّن حولها، وتحرّكاته غير المتوقَّعة، وربما جاءت الأقدار لتضيف للتشظِّي الداخليّ، والاعتراك الأهليّ مساحة تعمِّق الشرخ داخل النسيج المجتمعي الأمريكي، الأمر الذي بات ينذر ويحذّر ممّا هو أشدّ هَوْلاً، وأسوأ وقعًا عمّا قريب.

من النقطة الأخيرة في هذه القراءة تبدو واشنطن في حاجة إلى رئيس على درجة عالية من الحنكة السياسيّة، لا سيّما وأنّ الرئاسة عمل سياسيّ من الباب إلى المحراب، ومن الألف إلى الياء، وعليه ينبغي أن يكون شاغل هذا المنصب داهية سياسيّة من الطراز الأوّل.

على أن الدهاء بمفرده ومن غير رؤية إستراتيجيّة لا يفيد نفعًا، ولهذا لا يمكن أن يكون منصب الرئاسة الأميركية عملاً منفردًا، بمعنى حتميّة وجود طغمة من المفكرين الإستراتيجيّين من حول الرئيس، وقديمًا قالوا في الأدبيّات الكلاسيكيّة إنّ من يوسوس في أذن الملك، أخطر من الملك.

لا يمكن لرئيس أميركا التمترس وراء ضيق الإيديولوجيات الحزبيّة، بل عليه الانطلاق في رحابة الأبستمولوجيّات المعرفيّة، تلك التي تكفل له أن يبسط أجنحته على عموم الأمريكيّين، ليبني الائتلافات ويكوّن التحالفات ويعقد الاتّفاقيات.

 أميركا اليوم في حاجة إلى "بنّاؤون مهرة"، وبعيدًا عن المعنى القديم "للبنّائين الأحرار"، وما يدور من حولهم، بنّاؤون قادرون على إعادة هيكلة المجتمع الأميركيّ، ودمج الجماعات العرقيّة المختلفة، ضمن طيّات الرقائق الحضاريّة والمجتمعيّة التي تشكّل فلسفة "بوتقة الانصهار" الأمريكية التقليدية.

لقد فقد الكثير من الأميركيّين خلال العقدين الأخيرين مساحة عريضة من روح التفاؤل والأمل التي كانت تميّزهم، ولهذا فهم في حاجة ماسّة إلى رئيس يذكِّرهم بالتزاماتهم تجاه أمريكا أوّلاً، والعالم ثانيًا، وبلسان آخر، رئيس يبسط على مائدة الأمم معنى ومبنى "أمريكا مدينة فوق جبل"، تنير للعالم حرّيّة حقيقيّ، واحترام لسيادة الأمم والشعوب، وبعيدًا عن التلاعب على المتناقضات، وأفكار القرن الجديد ، حيث شهوة الإمبرياليّة تغلب على روح المسكونيّة.

يحتاج رئيس أميركا القادم حضورًا كاريزماتيًّا يستطيع من خلاله، مهما كانت خلفيّته الحزبيّة، أن يضحي قادرًا على إقناع مؤسّسات الدولة المختلفة برؤاه، ومن غير لغة الكراهية، وإن لزم الأمر ضربًا من ضروب التنافس السياسيّ الطبيعيّ، فليكن ذلك من خلال لغة وطنيّة تهدف إلى صالح ومصالح الشعب، ومن غير مكايدة سياسيّة تفرغ العمل العامّ من قيمته الأخلاقيّة ورمزيّته الإنسانيّة.

لا فائدة في رئيس أميركا القادم ما لم  يكن متميّزًا  بقدرة فائقة على إثارة الدوافع الكامنة لدى الأمّة، عبر لغة لبقة راقية عالية، أو أن يتّسم بكونه محاورًا ممتازًا يشرح ولا يجرح، ويوفّق ولا يفرّق.

لقد سَئِمَ الأميركيّون من أحاديث السياسيّين الممجوجة، والتي تبدو رطانة سياسيّة محفوظة، بأكثر منها  مشاغبة ومشاغلة لاحتياجات الشارع الأمريكيّ، ولهذا فهم يتطلّعون إلى رئيس قادر على التواصل معهم جماهيريًّا، أولئك الذين يبغون قيادة لا تشغلهم الجونب الاحتفاليّة بقدر ملامسة الحاجات الإنسانيّة الرئيسة لهم ولأولادهم من بعدهم.

رئيس أميركا بحسب الدستور هو قمّة السلطة التنفيذيّة في البلاد، وللقائد التنفيذيّ الماهر دور جوهريّ في تحفيز القدرات الكامنة لدى شعبه وكذا استغلال الموارد المتاحة بالصورة المثلى لتحقيق أمنيات قلب الأميركيّين.

هل ينبغي على رئيس أميركا القادم أن يكون مثالاً للكمال؟

 سبحان مَن له الكمال وحده، إنّما المطلوب هو رئيس ساعٍ في طريق الكمال، قادر على أن يحمل للأمريكيّين ألوان الأمل، وأن يضيء لهم شعلة الحرّيّة التي كادت أن تنطفئ.