أضحى التدخل العسكري التركي في الشؤون الداخلية السيادية للدول المستضعفة والمكروبة في العالم العربي، ديدنا للسياسة التركية في الآونة الأخيرة، أماط اللثام عن الإستراتيجية التركية الجديدة في تصدير الصراعات والنزاعات المسلحة إلى خارج محيط الدولة الخلف لأشنع إمبراطورية توسعية في القرون الغابرة.

صارت سوريا وليبيا والعراق والصومال كرات لهب مشتعلة بالأيادي السوداء الطولي التركية الممتدة إلى جنوب وشرق البحر المتوسط والقرن الإفريقي، فثارت العديد من الأسئلة الكثيرة يأتي على قمتها، سؤال أهم: "أين المجتمع والقانون الدولي من هذا التوسع التركي؟".

استنسخ الرئيس رجب طيب أردوغان نظريات بائدة عفى عليها الزمان وأسدلت عليها ستائر البطلان، أسسها بعض من المنظرين الميكيافليين في إيطاليا وألمانيا، وعلى رأسهم الإيطالي بلنشتلي في معرض دفاعهم عن وحدة الإمبراطورية الجرمانية والدولة الإيطالية، فقالوا بعدم جواز تدخل الدول الأجنبية لمنع اتساع دول أخرى عن طريق ضم بعض الدول الصغيرة المجاورة لها، مادام الغرض من هذا الضم هو قيام دولة كبيرة تجمع بين كل أفراد الجنس الواحد.

لا جرم أن العمل بهذا الرأي من الخطورة بمكان، لأنه يؤدي إلى إطلاق يد الدول القوية في الاعتداء على جيرانها من الدول الضعيفة وضمها إليها، فتصدى لذلك التنظير الأخرق فريق كبير من الثقات من الفقهاء، فانبروا يؤكدون بضرورة أن تتدخل الدول بكافة الوسائل لمنع دولة من الاتساع بشكل يهدد سلامة الدول الأخرى، ولو كان الخطر المهددة به هذه الدول احتماليا.

جلي أن النذير الخطير الذي أطلقه الرئيس التركي في مطلع عام 2019، زاعما أنه ليس ثمة دولة أو دول تستطيع أن تحصر تركيا في يابستها مثل تهديدا نفذه بالفعل، وفي عين العام، حين عقد مذكرة التفاهم مع حكومة الوفاق الليبية، كما أرسل بوارجه الحربية لتحرس السفن التركية التي تنقب عن الغاز في المياه القبرصية واليونانية، ومؤخرا في مناطق المناطق البحرية الليبية الجديدة، وفق المذكرة التي رفض الأمين العام للأمم المتحدة تسجيلها حتي الآن.

لا ريب أن الممارسات الأوربية الجماعية لمنع الدول العظمى من التوسع على حساب الدول المستضعفة أو المكروبة لم تكن ممارسات منعزلة، فعلى أساس هذه النظرية المهمة تدخلت الدول الأوربية لوقف اتساع فرنسا في عهد ريشيلو ثم لويس الرابع عشر ثم نابليون بونابرت، وعلى أساسها اشتركت بريطانيا وفرنسا وحلفائهما في الحرب العالمية الأولى لوقف توسع إمبراطوريتي ألمانيا والنمسا، ولم يكن اعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا عام 1939 بعد اعتداء الأخيرة تباعا على النمسا فتشيكوسلوفاكيا فبولندا، إلا تطبيقا لهذه النظرية.

أماطت جوقة الرئيس التركي عن سوء النية وخبث المقصد وفجاجة المنطلق، حين استلهموا نظرية "المجال الحيوي "في تبريرهم لزحفهم وتوسعهم في شرق البحر المتوسط، حيث تشرعن النظرية للشعوب الكبرى أن تتمدد تتوسع من أجل الارتقاء والاستفادة من حيويتها ومزاياها الخاصة، إذا ظلت الدولة محصورة اقتصاديا وسياسيا في نطاق إقليمي محدود، ولما كان جيران شعب هذه الدولة يأبون عليه المنافذ الضرورية لنشاطه الاقتصادي ويضنون عليه بالموارد الأولية اللازمة لسد احتياجاته، كان مثل هذا الشعب الكبير في حل من أن يسعي للتخلص من حالة الحصار هذه، وإيجاد مجال حيوي له يتناسب مع قوة حيويته الكامنة وقدر نشاطه الخاص.

الشاهد أن مؤدى هذه النظرية التي يتشدق بها كهنة السلطان التركي، التسليم للدول الكبرى في مثل هذه الحالة بحق الاعتداء على جيرانها، لتحصل منهم عنوة على ما لم يسمحوا به اختيارا، فيختلط الحابل بالنابل وتعم الفوضى البلاد، والواقع أيضا في الحالة التركية أن إبرام المذكرة الشاذة المشار إليها ولدت من تفتق قريحة هؤلاء الكهنة الذين أشاروا على سلطانهم بضرورة الزحف التركي غير المقدس حتى الهلال النفطي الليبي في سرت، فكانت المذكرة ستارا أسود فشل في التمويه على المبتغي التركي الرخيص.

إن التصريح الخطير لوزير الدفاع التركي خلوصي أكار الذي أكد فيه أن تركيا تعود إلى ليبيا بعد انسحاب الأجداد، وأن تركيا ستبقي في ليبيا إلى الأبد، لا يمكن عزله عن التطورات الجيوسياسية الأخيرة التي صارت نبتة شيطانية في شرق البحر المتوسط، فتركيا لم تعد تنظر إلى الموقع على أنه حقيقة مطلقة، فهو قابل لإعادة التشكل عبر الزمن عن طريق التنكر للحدود السابقة وترسيم حدود جديدة، وهذا يعني أن الموقع بذاته يتبدل، وتتبدل معه كذلك نسبية أهميته، وما المذكرة البحرية التي عقدتها تركيا بليل مع حكومة الوفاق إلا برهانا كاشفا ودليلا دامغا على السياسة التركية السافرة والمتجاسرة في الآونة الأخيرة.

نافل القول أن الإخلال بتوازنات القوي يصبح أمرا واقعا بل وحتميا، وإذا كانت الحدود الخرائطية بطيئة وصعبة التغيير، فهناك حدود أثيرية أخرى غير مرسمة فعليا، لكنها متحولة على الدوام، يوسعها الأقوى لصالحه، والأضعف ينكفئ للخلف مكرها للقبول بفضاءات أضيق، والحالة الليبية التركية الأخيرة ليست إلا نموذجا صارخا للمعاهدات غير المتكافئة التي يحوز فيها الطرف الأقوى على مركز الأسد، ولا يترك للطرف المستضعف إلا الفتات وفقا لقانون البحر وشريعة الغاب.

تجدر الإشارة في سياق الانتهاكات الجسيمة التركية للقانون الدولي للبحار أن هذه الانتهاكات لا تضر فقط بالدول الساحلية المجاورة لتركيا في المتوسط، لكن بالمجتمع الدولي ككل، وهنا فالدول التي تحتج على الخروقات التركية لا تتصرف بسبب تعرضها لضرر، إنما بصفتها عضوا في المجتمع الدولي ككل، واعتبرت محكمة العدل الدولية في حكمها الصادر في قضية شركة برشلونة لمعدات الجر أن "لجميع الدول مصلحة قانونية"، فالالتزامات التركية الدولية في هذا الصدد ليست تجاه دولة أو دول معينة لكن التزامات "واجبة تجاه المجتمع الدولي ككل".

صفوة القول، يجب ألا يقتصر ردع تركيا التوسعية على دولة بعينها هي مصر بحسبانها الدولة الأكثر تضررا من إرهاب الجماعات الإرهابية الليبية، التي ما فتئت بين الفينة والفينة تخترق الحدود السياسية الغربية لمصر، لكن يجب على المجتمع الدولي، دولا ومنظمات، أن يتحمل مسؤولياته الدولية في هذا الصدد.