في السنوات الأخيرة أصبح الجدل العراقي محتدماً حد الشراسة بخصوص معنى 14 يوليو/تموز 1958: هل هو انقلاب عسكري دموي أوقف تطوراً بطيئاً لنظام حكم مؤسساتي وديموقراطي فيه بعض العيوب؟ أم هي ثورة ضرورية أنهت نظاماً فاسداً ميؤوساً من إصلاحه كان يتشح بديموقراطية شكلية تحمي مصالح أقلية طبقية، سياسياً واقتصادياً، هيمنت على الموارد والقرار؟

المدخل للإجابة عن هذا السؤال الصعب هو فهم النظام الملكي ودينامياته الداخلية. زمنياً، كان الإنجاز الأهم للملكية العراقية في عقدها الأول، العشرينات، عقد التأسيس حيث تشكلت مؤسسات الحكم وأدواته من دستور وبرلمان وحكومة ونظام انتخابي ونخبة سياسية وأحزاب فضلاً عن مؤسسات الدولة الأخرى التي ارتبطت بالناس مباشرة كأنظمة التعليم والصحة والمحاكم والخدمات وسواها.

برغم كونها ناشئة، لعبت هذه المؤسسات، بمرور الزمن، دوراً أساسياً في تشكيل فكرة الشعب وانتمائه إلى وطن ذي مستقبل بدا واعداً.

على امتداد الثلاثينات والأربعينات وصولاً إلى الخمسينات، ازداد ارتباط المجتمع بالدولة، فمع تأكيد الانتماء للدولة وصعود الوطنية العراقية، تصاعدت أيضاً المطالب بمزيد من الانفتاح في النظام السياسي. فعبر اتساع المدن من جراء الهجرات من الريف وزيادة عدد الموظفين وتخرج شبان كثيرين من المدارس والجامعات وبروز القطاع الخاص، تشكلت وكبرت طبقة وسطى نشطة وطموحة كانت تواقة للتعبير عن نفسها سياسياً وتمثيل قيمها في النظام السياسي ومؤسساته.

لكنّ الساسة الملكيين الذين تحولوا تدريجياً إلى طبقة أرستقراطية سياسية أصروا على احتكار النظام السياسي وتمثيله، فلم يسمحوا إلا بدخول محدود ومقنن في مراتب السلطة العليا لأعضاء الطبقة الصاعدة، مع إفشال الجهود الإصلاحية لهؤلاء.

كان الساسة الملكيون يدركون جيداً عمق أزمة النظام الملكي لكنهم رفضوا اتخاذ الإجراءات اللازمة للإصلاح. في ديسمبر 1945، ألقى الوصي عبد الإله خطاباً مهماً أمام مجلس الأمة، المتشكل من مجلسي النواب والأعيان.

كان خطاباً جريئاً نال رضىً شعبياً وسياسياً رسم فيه الوصي خارطة طريق لإصلاح العيوب الكبيرة في النظام الملكي التي تسببت بأزمات كثيرة: إطلاق الحريات السياسية عبر تشكيل أحزاب وإصدار صحف معارضة، ومنع تدخل الجيش في السياسة (وكثير من الساسة، بينهم الوصي نفسه ونوري سعيد ورشيد عالي الكيلاني، استخدموا الجيش للحصول على مكاسب سياسية)، وحل مشكلة تملك الفلاحين للأرض الزراعية (التفكيك التدريجي للإقطاع حليف الملكية)، ومكافحة الفساد (بعكس الصورة النمطية المثالية اليوم عن نزاهة ساسة النظام الملكي، كان هناك الكثير من الفساد بينهم)، وفسح المجال لاستيعاب الجيل الجديد من الشباب المتعلمين في الدولة والسلطة (كان "الحرس القديم" من أمثال جميل المدفعي وارشد العمري ونوري سعيد يقاومون هذا الأمر بشدة) وإصلاح النظام الانتخابي الذي صمم من أجل إعادة انتخاب طبقة الساسة من الضباط الشريفيين نفسها.

على مدى السنوات التالية لم يتحقق من هذه الاجندة الإصلاحية إلا هدف واحد هو منع تدخل الجيش في السياسة، لكن تحقيق هذا الهدف المهم اتبع الأساليب البوليسية وليس المؤسساتية. فبعد أن اكتشف الساسة الذين كانوا يستخدمون كبار ضباط الجيش لتحقيق طموحاتهم السياسية الثمن الباهظ الذين دفعوه عن سلوكهم المتهور هذا، كما ظهر في حركة رشيد عالي الكيلاني في 1941، لجؤوا إلى معاقبة الجيش عبر تحجيمه وتقليل الإنفاق عليه مقابل زيادة الإنفاق على الأجهزة الأمنية وتوسيعها وإعطائها صلاحيات كبيرة في تعقب المعارضين واعتقالهم داخل الجيش وخارجه.

كانت النتيجة هي ارتفاع الاستبداد السياسي وبروز الدولة الامنية، خصوصاً مع فشل النظام الملكي في إطلاق الحريات السياسية التي وعد بها الوصي في خطابه، إذ دامت هذه الحريات الموعودة أشهراً معدودة في حكومة السياسي الإصلاحي توفيق السويدي في 1946 قبل إطاحة هذه الوزارة لتعود الحكومات التالية إلى ذات أساليب غلق الصحف واعتقال أعضاء الأحزاب المعارضة والتلويح بالقبضة الأمنية، باستثناء حكومة إصلاحي آخر هو محمد فاضل الجمالي التي حاولت إطلاق الحريات السياسية من جديد بين عامي 1953 و1954، قبل أن تطيحها مناورات السياسي البارع نوري سعيد.

كان نوري الممثل الأهم والأقوى للجيل السياسي القديم بكل قيمه الطبقية الرافضة للتحديث السياسي والديمقراطي المنسجم مع التغيرات الاجتماعية والسياسية المتسارعة في البلد والمصرة على "الأشراف الأبوي" على الشعب واحتكار السلطة مع القبول بإصلاحات محدودة ومقننة لا تهدد امتيازات النخبة الحاكمة.

كان إصلاح النظام الانتخابي هو البوابة الأساسية للإصلاح الجدي، فمنذ تأسيس النظام الملكي كانت الانتخابات فيه تجري على المنوال العثماني التقليدي القديم مع مسحة ليبرالية أضافها الإنجليز إليها، أي انتخابات بمرحلتين، أولية وثانوية. تشمل المرحلة الأولى انتخاب المؤهلين للتصويت (من الرجال فقط) لمن يسمون بـ"الناخبين الأوليين" ثم في المرحلة الثانية، يقوم هؤلاء الناخبون الأوليون بانتخاب الناخبين الثانويين الذين يصبحون أعضاء في مجلس النواب فقط، بعكس مجلس الأعيان الذي يعين الملك أعضاءه.

سمح هذا النظام الانتخابي بالكثير من التلاعب والتزوير الذي أقر به حتى ساسة النظام الملكي أنفسهم. ولذلك كانت المعارضة تطالب دوماً باستبدال هذا النظام بآخر يقوم على الانتخاب المباشر وبحرية الدعاية السياسية وتصويت النساء وغيره.

لم تجرِ في العراق الملكي هذا انتخابات مباشرة إلا مرة واحدة عام 1954 في عمليتين انتخابيتين في شهري يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول لانتخاب أعضاء مجلس النواب. وبرغم التلاعب فيها لصالح حزب نوري سعيد الفائز فيها، الاتحاد الدستوري، اعتبرت هذه الانتخابات الأكثر نزاهة في كل عقود العهد الملكي.

مع ذلك، قلق القصر من نجاح المعارضة المحدود في هذه الانتخابات، خصوصاً في المدن الرئيسية. كُلف نوري سعيد بتشكيل الحكومة وحصل على ضوء أخضر من القصر بالقيام بإجراءات استثنائية قوضت ما تبقى من الديموقراطية الملكية. في ظل هذه الحكومة الأطول عهداً (استمرت نحو ثلاث سنوات)، تصرف نوري سعيد، بحجة محاربة الأفكار الهدامة، كحاكمٍ مستبد، إذ حل مجلس النواب ومنع الأحزاب السياسية المعارضة وأوقف إصدار صحفها فتحولت هذه الأحزاب إلى العمل السري، فضلاً عن فرضه أجواء قمع أمني غير مسبوق في البلد بكثرة الاعتقالات وتكميم الأفواه وصل إلى حد نزع الجنسية العراقية عن بعض معارضي الحكم. حينها، تشكل إجماع شعبي وسياسي خارج السلطة باستعصاء النظام الملكي على الإصلاح وضرورة رحيله.

غذى هذا الإجماع الإعجابُ الشعبي العراقي بمصر الناصرية في أشد لحظات صعودها حين تحدت الغرب سياسياً بنجاح (العدوان الثلاثي على مصر في 1956) وكان العراق الملكي يُحسب على المعسكر الغربي. عرضت الناصرية حينها نموذجاً ثورياً سريعاً للتنمية الاجتماعية والاقتصادية شعرت بجدواه الطبقات الفقيرة بخلاف النموذج البرلماني العراقي المحافظ والبطيء والمتعالي على الفقراء والمرتاب بالطبقة الوسطى.

في 14 يوليو/تموز 1958 حقق عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف الإجماع العراقي العام بضرورة التخلص من النظام الملكي في انقلاب عسكري واضح تحول إلى ثورة شعبية لدى أغلبية العراقيين. لم يكن الجمهور العراقي يعرف هذين الضابطين قبل صباح ذلك اليوم، لكنه احتفى على نحو واسع بما قاما به إذ عمت مظاهرات الابتهاج بالإطاحة الدموية بالنظام الملكي عموم البلد على مدى أيام أوقفت الحياة إلى أن اضطر عبد الكريم قاسم إلى مطالبة الناس بالتوقف عن التظاهر لاستئناف الحياة الطبيعية وتنفيذ الحكومة الجديدة أجندتها الإصلاحية.

كانت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها حكم عبد الكريم قاسم مهمة وأخلاقية في جوهرها، لكن الرجل فشل في الإصلاح السياسي، إذ لم يكن مهتماً باستيعاب الأفعال السياسية الحكومية والمعارضة في إطار مؤسساتي وحزبي منظم فضاع سريعاً وعده بالانتخابات واستعادة الحياة البرلمانية في بداية 1960 ليصبح الشارع مكان حسم الخلافات السياسية بدلاً من المؤسسات البرلمانية والحزبية.

بسبب الالتفاف الشعبي الهائل حوله، أصبح قاسم تدريجياً أسير إحساسه المبالغ به بأهميته التاريخية كزعيم استثنائي ليتحول إلى دكتاتور عسكري منفصل عن بوصلة البلد السياسية. كان خطأ قاسم الفادح هو ارتيابه من المؤسسات وإيمانه بقدراته، فلم يسع إلى البناء على الأسس المؤسساتية لإدارة الحياة السياسية التي أنشأها الملكيون وفشلوا في تطويرها فغاص الرجل تدريجياً في خليط من خطاب شعبوي وانفراد استبدادي بالسلطة وحد خصوماً كثيرين ضده الى أن كانت نهايته الدموية في شباط 1963.

يبدو درس الملكية العراقية الأهم هو فشلها في إصلاح نفسها. لم تختلف أحاسيس الخيبة العميقة التي شعر بها الجمهور العراقي من الديموقراطية الطبقية للنظام الملكي في سنواته الأخيرة، بانعزالها عن حاجات المجتمع وهمومه، عن أحاسيس شبيهة اليوم لدى غالبية العراقيين من ديموقراطية ما بعد 2003.

فهذه الديموقراطية تبدو مصممة من أجل رعاية مصالح الأحزاب وساستها وليس مصالح الشعب. من هنا تبرز احتجاجات تشرين، مشروعةً في غضبها ونبيلة في كونها محاولة شعبية جادة، وربما أخيرة، لإصلاح عطب هذه الديموقراطية. هذا وقت استماع الأحزاب وساستها لصوت الجمهور لتجنب أن يدفع البلد أثماناً باهظة مستقبلاً.