هاهم الإسبانيول يدفعون ثمن إغتراب الإنضباط في حياتهم، والدليل في نسبة الإصابات بالوباء التي بلغت 120 ألف، فتتجاوز إسبانيا في البلاء إيطاليا، لتحتلّ المرتبة الأولى بعد أمريكا. وها هم الإسبان يعترفون بأنفسهم أن ما حدث هو شهادة أخرى على انحلالهم الذي لعب فيه الإتحاد الأوروبي دور البطولة، عندما أغدق عليهم الأموال، في ذروة افتتانه برؤية ما كان بالأمس حلماً، فإذا به يتحوّل واقعا بعد عراك طويل.

فالمال الذي يُنال بالمجّان، بدون نزيف عرق، هو دوماً لعنة عرفتها الأمم في سيرة الفوز بالكنز كهبة مجّان، أو بالحصول على إرثٍ، أو ثروة بمشيئة قمار؛ لأن هذه مثل العطايا، اعتادت أن ترعى روحاً شريرة لا تجود بشيء على سبيل الهبة إلاّ مشفوعاً بنصيب من شؤمٍ، يقود إلى انتقام، لأن المجّان دوماً شَرَك.

وقد وقع الإسبان في هذا الشرك ليسلب فيهم روح الإنضباط الذي ألِفوه طوال حكم الجنرال فرانكو، فاستمرأوا التبطّل، وركنوا إلى استرخاءٍ كان دوماً علّة انحلال.

وقد حدّثني أحد الأصدقاء الجورجيين الذين نزلوا الديار مع بداية الرخاء، فقال أن مدير أحد البنوك حدّثه بما يكشف سرّ الإستهانة بقدس أقداس هو بمثابة صلاة، كما هو الحال مع العمل، عندما أخبره بالتعليمات الصادرة للبنوك كي يهبوا الأموال لكل الناس، ليس للمواطنين فحسب، ولكن للأجانب الذين أقبلوا أيضاً، لا لكي يقبضوا أموالاً بالمجّان، ولكن للحصول على عمل يحلّل تقاضي المقابل. وبالفعل كانت السُّلَف المالية الغير قابلة للإسترداد، توهب لكل مَن هبّ ودبّ، دون أن تسوَّى تالياً، كأنَّ خزانة الإتحاد الأوروبي غنيمة سائبة وُجدت لاستدراج الأمم للإنخراط في الشبكة، ويجب انتهاز الفرص لنهبها في أسرع وقت ممكن. وهي سياسة انتهجتها حكومة الإتحاد، ناسية في حمّى هوسها بإغواء الدول الأوروبية المتخلّفة اقتصادياً، أن هذه الأموال هي نزيف عرق مواطنيها الأكثر تحلّياً بروح الإنضباط، بل وبروح التضحية كالألمان، ولكن كونها ثمرة تضحية لا يبيح الإٍستهانة بها، إلى الحدّ الذي تتحوّل فيه إفيوناً لتخذير الناس، بدل حثّهم على الإنتاج بسلاح العمل.

بلى! كانت سياسة الإتحاد الإقتصادية تشجيعاً مفضوحاً على الكسل، ما لبث أن زوّر الطبع في أعظم الأمم الأوروبية، وأكثرها انضباطاً تاريخياً، كما الحال مع اليونان، التي أفلست سريعاً، وأثقلت الديون الخرافية كاهلها، ولن تستطيع تسديدها في الأمد القريب. وإسبانيا تأتي في الدرجة الثانية في هذا السلّم الذي غرّب في حياة الإنسان تقديس العمل، واستودعه ترفاً أورثه الإسترخاء، والتبطّل، واللامبالاة، وكل الأمراض التي عرفها جيلنا في بلداننا النفطية التي بدل أن تكون فيها الثروة الطبيعية، المجّانية، سبباً لنموّ، إنقلبت في حياتنا ورماً خبيثاً سلبنا لا الرغبة في العمل وحسب، ولكن قتل فينا الإحساس بالواجب، أي ذلك الدًّيْن الغيبيّ الذي لا يختلف عن الدِّيْن، وإلاّ لما وَحّدتها اللغة في الحرف أيضاً، كما وحّدتهما في المحتوى. بالقدر نفسه الذي جلبت فيه كنوز قارات ثلاث هي أمريكا الشمالية والجنوبية وكندا، على إسبانيا اللعنة، برغم رأي بلزاك الذي لم يُحسن الظنّ بمواهب الإسبان يوماً، عندما أعلن بأن مجد الإسبان كلّه من صنيع البربر، وليس الإسبان!

والواقع أن هؤلاء البربر هُمْ مَن يغذّي في إسبانيا شريان الحياة حتى اليوم، وهُمْ قدرها الذي يقوم ببناء بُرجها البابلي، أو بالأصحّ، الدونكيخوتي، الذي لا يريد أن يكتمل أبداً، كما كاتدرائية برشلونة الشهيرة!

وفي كل الأحوال فإن استطاع الإتحاد الأوروبي أن يغيّر من معالم إسبانيا في مجال البُنية التحتيّة، فإنه لم يفعل بنفسية الإنسان الإسباني خيراً، سيّما إذا سلّمنا بحقيقة النجاح في شأن البُنية التحيّة التي يعترف الإسبان أنفسهم، بأنّ الفضل في بنائها لا يرجع إلى الإسبان، ولكن للعمالة الأجنبية!

فإذا كنّا نقبل بالبلايا، كما الوباء، باعتبارها قدَراً، بيد أن قياس الكفاءة يكمن في مدى القدرة على السيطرة عليها، والمثال في هذا الشأن قرأه العالم في صنيع دولتين اعترف لهما العالم باعتناق الإنضباط ديناً هما: ألمانيا والصين. هذا في حين قدمت دولتان إثنتان النموذج النقيض هما: إيطاليا وإسبانيا!

 الثلاثاء 21 إبريل 2020 م  

هلّت الشمس بعد غياب طويل. أطلّت بسيماء خجولة، شحيحة، شاحبة، كأنها تعبّر عن خجلها من اغترابها عنّا، عقاباً لنا على ذنب مّا، وتتسامح معنا الآن، وربما تعتذر عن تخلّيها عنّا في زمن محنتنا، فلم أجد مفرّاً من التمرّد على وصايا الحظر القاضية بتحريم الخروج إلى الشرفة، فخرجت كي أحييها، لأبثّها شجوني التي قادتني إلى وطن الرؤى في الألب السويسري الذي احتضنني لعشرين عام كاملة، فخذلتُه بسبب الصقيع، لأن المقام في شمال الجليد لنصف قرن، هو قصاصٌ لم يعد يحتمله سليل وطن الشمس المدعو بالصحراء الكبرى.

في وقفتي تطلّعت نحو الغرب، حيث تقبع أبنية "كامبريلس"، لأبصر هناك، لقيتي القرينة في وجداني دوماً للصحراء: البحر!

أشعّة الشمس البائسة سطعت على غمره النائي، الملفوف بضبابٍ كالسراب، فأومأ البحر بلمعةٍ آلمتني، لأني تذكّرتُ سجني، والمصاب المعلّق قدراً فوق رأسي، مما أقعدني طوال هذا الأمد الموجع عن الحلول في حرمه، كما اعتدت أن أفعل منذ نزلت دياره.

فبالقدر الذي كان فيه أقرب لي من حبل الوريد، في زمن السِّلم، صار بحضوري في واقع البوباء، أبعد من الصين.

فمتى يا ترى ينقشع الهمّ، كي أستطيع أن أتلو صلواتي في الحرم؟

الثلاثاء 21 إبريل 2020 م

الحقيقة أن استهتار العقلية الإسبانية بواقعها الحرفي مستعارٌ من استهانة أصلية بالواقع في بُعده الإنساني. وما هوس الإنسان الإيبيري بالتسلية على حساب الواجب إلاّ استجابةٌ لهذه النزعة العبثيّة، التي تعكس نزوعاً خفيّاً للتعامل مع الوجود بروحٍ عدميّة. والدليل؟

الدليل عبّر عنه ذلك الإنسان الجدير بأن يكون ترجماناً مفوّضاً بحكم تجربته التي اختزلت آلام شعبه، كما هو الحال مع سرفانتس؛ ولو لم يكن الأمر كذلك لما صار "دون كيخوت" نموذجاً عالمياً في التعبير عن موقف السخرية من الوجود، على ذلك النحو الهزلي الذي ينقلب موقفاً درامياً، بل تراجيديا، ما أن يبلغ تخوم الأبعاد القصوى. ولو لم يكن الموقف أصيلاً في ترجمة روح الإنسان الإسباني، في تلك المرحلة التي شهدت وفاة تقاليد الفروسية، وميلاد الروح التجارية في أوروبّا، لما أُصيب العالم بعدواها، لتغدو "دون كيخوت" العمل الروائي الأكثر قراءة في العالم، مما يعني أن الروح الإسبانية، في استهتارها بواقع المهزلة البشرية، هي بمثابة ترجمة لحكم الإنسانية، في حقّ الإنسانية. والترياق الوحيد لهذا الوباء، وباء الإحساس المميت بهيمنة باطل الأباطيل، هو التسلية التي تتغنّى بشعار "كل شيء مباح، مادام لا وجود لأي شيء حقيقي"، فإن أخفقت التسلية في تحقيق الصلح مع الواقع، فلا يبقى وجود لملاذ سوى اعتناق السخرية ديناً، فلا نملك إلاّ أن نوافق توماس استرنس إليوت في قناعته القائلة بأن ما يستهوينا في قراءاتنا هو أدب السخرية، الأدب الذي نقرأه على سبيل التسلية. وأحسب أن السبب إنّما يسكن روح العدم الذي يحيا في لاوعينا، روح اغتراب الحقيقة في واقعنا هو ما يدعونا لأن نحتكم إلى ساحة "دون كيخوت"، عملاً بوصيّة أفلاطون التي تدعونا لأن نحيا وجودنا لهواً. نحياه بروح الطفولة، بدليل أننا لا نحسد أحداً على السعادة كما نحسد الطفولة، وإلاّ لما راقنا أن نتغنّى بطفولتنا بوصفها فردوسنا الضائع.

ولكن المشكلة، في حال التجربة الإيبيريّة، أن إدمان السخرية في بُعدها الوجودي، لا يلبث أن يستقيم في جنسٍ من لامبالاة، لا تلبث أن تتحوّل سلوكاً في الممارسة الدنيوية، ولكننا لا نضمن ألاّ يتحوّل هذا السلوك طبيعةً بحكم الإدمان، ليستعير الإهمال اعترافاً في حرف الواقع، حتى إذا أضحى هويّةً، تبلبل الضمير، لتنقضّ الروح العدمية على قدس الأقداس الذي نسمّيه إحساساً بالواجب.

هذا يعني أن الموقف العدميّ من الوجود موقفٌ لا أخلاقيّ. والدليل يهديه لنا دوستويفسكي في "الممسوسين" بقوّة.