تشير المصادر الاقتصادية العراقية إلى أن وضع الدولة المالي حرج جدا نتيجة تدني أسعار النفط وتقلص صادرات العراق النفطية، بموجب اتفاق منظمة أوبك الأخير الرامي إلى إيقاف التدهور في الأسعار الناتج عن تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية.

وعلى عكس الدول الريعية الأخرى، فإن العراق لا يمتلك مدّخراتٍ أو صندوقا سياديا يكتنز فيه فائض إيراداته من النفط كي يستعين بها عند الحاجة، فإيراداتُه النفطية تقتسمها الاقطاعيات السياسية المسلحة حين تسلُّمِها، ولهذا يواجه صعوبة مالية كلما تدنت أسعار النفط.

موارد العراق من المنافذ الحدودية هي الأخرى تذهب في معظمها إلى جيوب الاقطاعيات السياسية التي تقاسمتها منذ عام 2003، ولا يصل منها إلى خزينة الدولة إلا النزر اليسير. جباية الضرائب غير كفوءة لأسباب كثيرة، ومعظم الناس لا يدفع أجور الكهرباء مثلا، بسبب انقطاعها المتواصل وتدني الخدمات البلدية بشكل عام. ديون العراق الخارجية والداخلية مازالت متراكمة، وكلما واجه العراق ضائقة مالية، اضطر إلى التفاوض حول تأجيل تسديدها.

لقد سعى وزير المالية العراقي، علي علاوي، منذ بداية توليه منصبه الشهر الماضي إلى التفاوض مع المنظمات الدولية والدول المختلفة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والكويت، لمساعدة العراق على تجاوز الازمة، غير أن الصعوبات التي يواجهها العراق غير قابلة للحل عبر المساعدات أو الديون الخارجية، بل تتطلب حلولا جذرية وإصلاحات هيكلية وإجراءات عراقية قاسية، عاجلة وطويلة الأمد.

الأزمة المالية الحالية ليست جديدة، بل تكررت مرات عديدة خلال العقود الأربعة المنصرمة، وهي ناتجة في شكل مباشر عن التخبط السياسي الذي أدخل البلد في صراعات وحروب مكلفة، وعن سوء إدارة الموارد المالية الناتج عن التخبط والدكتاتورية والتعسف، والفساد السياسي الطابع الذي تفشى في المؤسسات العراقية بعد 2003، ودفع الدولة إلى الاعتماد الكلي على إيراداتها النفطية لتسيير شؤونها. ومنذ الطفرة النفطية مطلع السبعينيات، اصبح معظم العراقيين موظفين لدى الدولة أو منتسبين إلى الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، ما ترك أثرا تدميريا على الاقتصاد، إذ تراجع الإنتاج الوطني وأصبح معظم احتياجات البلد يُستَوْرَد من الخارج، بما في ذلك المواد الغذائية والبضائع الضرورية التي كانت تنتج محليا وتُصدر إلى الخارج.

ومع استمرار الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت وفرض العقوبات الدولية على العراق، ودخوله في اتفاق النفط مقابل الغذاء، لم يعد هناك اقتصاد وطني حقيقي، بل أصبحت إيرادات النفط المحدودة تستخدم في تمويل برنامج البطاقة التموينية الذي عاش عليه معظم العراقيين في فقر مدقع منذ عام 1991 حتى الآن.

لكن إسقاط النظام عام 2003 عبر الغزو العسكري الأمريكي-البريطاني، قد أسقط معه الدولة السابقة القائمة على مؤسسات الحزب الواحد والحكم البوليسي الصارم. وعلى رغم أن إسقاط الدولة لم يكن ضروريا ولم يرحب به أحد، إذ كان بالإمكان الإبقاءُ عليها وإصلاحُها من الداخل، ولكن، كان العراقيون يأملون أن تقام محلها دولة عصرية ديمقراطية، يديرها خبراء في والسياسة والاقتصاد والإدارة، وتكون قادرة على تنظيم الاقتصاد والمجتمع، وتبدأ صفحة جديدة مع مواطنيها ودول العالم. لكن العكس حصل، إذ سمحت قوات الاحتلال بقيام مجموعة دول صغيرة متناحرة ضمن أطار دولة ضعيفة قائمة بالاسم فقط، تقتصر مهامُّها على تصدير النفط وتوزيع إيراداته على الجماعات المختلفة، كل حسب قوته العسكرية وسطوته على المجتمع.  

نعم، هناك الآن مجموعة دول صغيرة داخل الدولة الرسمية الضعيفة، ولكل من هذه الدول أو الاقطاعيات المستقلة، مليشيا مسلحة وقناة تلفزيونية وجريدة وبنك وشركات ومصالح متنوعة وطاقم وظيفي ومقرات متوزعة في مناطق العراق المختلفة وحصة في إيرادات النفط والجمارك والموانئ وعقود الدولة الصغيرة منها والكبيرة، تحصل عليها بالقوة عبر ممثليها في ما يسمى بـ (الحكومة الاتحادية) والحكومات المحلية، ورجال دين يبررون أفعالها شرعيا. ومعظم هذه الاقطاعيات المسلحة يتلقى دعما مباشرا من إيران التي تشرف على تفكيك العراق تحت مرأى ومسمع دول العالم.

الاقطاعيات العراقية المسلحة أنهكت واستهلكت موارد الدولة العراقية التي توشك الآن على الانهيار، ورغم هذه الكارثة الوشيكة، فإن الإقطاعيات غير مستعدة للتخلي عن مكاسبها ومناطق نفوذها ومصادر تمويلها. وحسب مصادر موثوقة، أن أحد خبراء المال والاقتصاد الذي استُعين به لإصلاح الاقتصاد العراقي المتداعي، قد اجتمع بقادة هذه الاقطاعيات، كل على انفراد، وصارحهم بالقول نصا إن (البقرة الحلوب التي تديم بقاءكم منذ 17 عاما تحتضر الآن، ويجب أن تتعاونوا من أجل إبقائها حية، كي تستمروا في حلبها، لأنها إن ماتت فلن يكون لكم أي كيان أو وجود)! لكن هؤلاء القادة، الذين ليس لديهم أي انتماء وطني أو إنساني، قد رفضوا هذه النصيحة الصادقة، فمعظمهم لا يفقه شيئا في الاقتصاد أو السياسة، بل يعتمد على دعم إيران للبقاء في موقعه. لم يستجيبوا لنصيحة الخبير المخلصة التي تخدمهم كما تخدم باقي المتساكنين على أرض العراق. نعم، لقد حولوا العراق إلى مجموعة من المتساكنين بدلا من المواطنين.

المعضلة العراقية أصبحت عسيرةً الحل، وتحتاج إلى عملية جراحية معقدة ومتشعبة يقوم بها خبراء متمرسون في الاقتصاد والأمن والإدارة والسياسة، وقد يحتاجون إلى الاستعانة بجهد دولي وإقليمي لتحقيق النجاح. بعض الاقطاعيات المسلحة أصبح متنفذا ويمتلك قوة عسكرية ضاربة تهدد كيان الدولة، لذلك أصبح لزاما أن تبدأ علمية الإصلاح بالتفاهم الدولي مع إيران كي تتوقف عن دعم الإقطاعيات المسلحة في العراق، ربما مقابل تقديم بعض الحوافز لها كي لا تضطر لاستخدام العراق للتخفيف من ضائقتها الاقتصادية الناتجة عن سياسات قادتها الذين اسْتَعْدوا دول المنطقة ومعظم دول العالم.

أما داخليا، فإن الحل يبدأ بتقوية أجهزة الدولة الأمنية، خصوصا جهاز مكافحة الإرهاب، كي يتولى ردع الجماعات المسلحة التي تمارس الإرهاب ضد المجتمع، وهذا من أولى أولويات الدولة. وعندما يتوقف الإرهاب ويتحرر المجتمع ولو جزئيا من سطوة الجماعات المسلحة، ويصبح القانون هو الفيصل في حل النزاعات ومحاسبة المتجاوزين، عندها يمكن البدء بعملية الإصلاح الإداري والاقتصادي والسياسي وفق القوانين الحالية. لكن هناك حاجة لقوانين جديدة تلغي الامتيازات التي منحتها الاقطاعيات السياسية المسلحة لأعضائها على حساب الشعب، لكن البرلمان الحالي غير قادر على تشريع هذه القوانين بسبب هيمنة المستفيدين منها عليه.

عدد الاقطاعيات السياسية يمكن أن يتقلص عبر إزالة سطوتها العسكرية واستعادة السيطرة على مقدرات الدولة، من منافذ حدودية ومطارات وبنوك وعقارات، وكل ذلك يوفر موارد للدولة ويؤدي في الوقت نفسه إلى تقليص نفوذ هذه الاقطاعيات. والخطوة الأخرى هي إزالة المسؤولين غير الأكفاء الذين جاءت بهم هذه الاقطاعيات من إدارة القطاعات المهمة وإحلال إداريين أكفاء محلهم، من أجل أن تبدأ الدولة بممارسة وظائفها الرئيسية بكفاءة، والتي يمكن أن تقود إلى استقطاب الاستثمارات وتدوير عجلة الاقتصاد، بدلا من الاعتماد على الريع النفطي الآخذ في الانحسار.

كما يجب تفعيل الدور الرقابي لهيئة الاتصالات والإعلام كي تتمكن من تطبيق القانون ومعاقبة وسائل التضليل الطائفية والحزبية التي تشن حملات محمومة لتفكيك المجتمع وترسيخ تبعيته لهذه الإقطاعيات وأسيادها خارج الحدود. من الضروري معاقبة، وربما إيقاف، القنوات الفضائية الحزبية التي تبث الفرقة والكراهية بين شرائح المجتمع العراقي منذ عام 2003. معظم وسائل "الإعلام" العراقية الحالية هي وسائل دعاية حزبية تعمل وفق أجندات سياسية أو طائفية أو شخصية، وممولة من المال العام عبر المسؤولين الفاسدين. وبسبب غياب الضوابط المنظِّمة، وضعف إدارة هيئة الاتصالات والإعلام أمام سطوة المليشيات، مارست هذه القنوات دورا تخريبيا طوال الفترة الماضية دون حسيب أو رقيب، وهذا الدور يجب أن يتوقف من أجل إتاحة الفرصة للمجتمع كي يتماسك ويبدأ في عملية البناء، بدلا من عملية الهدم المتواصلة منذ عقود. إيقاف هذه القنوات، خصوصا المخالف منها للضوابط والمعايير الإعلامية، سوف يقلص أيضا من نفقات الإقطاعيات السياسية المسلحة، وحاجتها إلى التجاوز على المال العام. أحد الوزراء السابقين أسَرَّ بعض محدثيه أخيرا بأن مجموعة مسلحة تابعة لإحدى الإقطاعيات السياسية دخلت على أحد الوزراء وأجبرته تحت تهديد السلاح على توقيع عقد مع إحدى الشركات بكلفة مئتي مليون دولار تقريبا، ما اضطر الوزير إلى تقديم استقالته.

جائحة كورونا أضرت كثيرا بحياة الفقراء ممن يكسبون عيشهم عبر العمل الحر. وهؤلاء كثيرون جدا، وقد منعتهم القيود الصحية من كسب مصادر عيشهم، وهذا ليس منصفا ولا إنسانيا ولا عمليا تحت أي ظرف. يجب أن تلجأ الحكومة إلى إجراءات أخرى كي تُؤمِّن لأبناء هذه الشريحة الواسعة مصادر العيش الكريم. فأما أن تقدم لهم مساعدات مالية مؤقتة حتى تنجلي الجائحة، أو تجد طرقا سليمة لممارستهم أعمالَهم دون أن يلحِقوا أضرارا بأنفسهم أو بالمجتمع. الجائحة تتطلب الحجر الصحي وحظر التجوال، ولكن ليس لكل الناس، فهناك إجراءات وقائية سائدة في الدول الأخرى لمن يضطر للعمل، كارتداء اللثام الواقي والقفازات ومراعاة التباعد الاجتماعي وما إلى ذلك من وسائل الوقاية.

لقد قارب عدد سكان العراق الـ40 مليونا، معظمهم دون سن الثلاثين، وهؤلاء لن يسكتوا على هضم حقوقهم وسرقة أموالهم وتفتيت بلدهم، وقد آن الأوان أن يقتنع قادة الاقطاعيات السياسية بأن العراق قد دخل مرحلة جديدة تتطلب منهم (التضحية) بمواقعهم ومكتسباتهم غير المشروعة أصلا. كما أصبح لزاما على المرجعيات الدينية أن تتصدى للمتشدّقين بالدين يفككون الدولة ويدفعونها نحو الانهيار الذي لن يبقي حجرا في مكانه.