الجمعة 10 إبريل 2020: لم أكتشف نفعاً لحيوانٍ كريه كالكلب إلاّ بعد هيمنة الوباء. وها هي السلطات تنتصر لمريدي هذه الطينة من الوحوش فتستثنيها من تحريم الخروج.

وها هو جاري في الشقة المقابلة يستجير بكلبه، الفظيع فيتشبّث بزمامه في طريقه إلى الشارع مطمئناً إلى الشفيع الذي سيعفيه غرامات الشرطة، أو أصفاد جنود الجيش، في نيّةٍ مبيّتةٍ كي يستفزّني، لأنّي ظللت في صراعٍ مع هذا المسخ اللعين منذ نزوله ضيفاً على البنيان قبل ثمان سنوات، ليقضّ مضجعي بنباحٍ غريب لم أعهده في أيّ كلب صادفته طوال نصف قرن من مقامي في أوروبا. فبرغم تفاهة حجمه، بيد أنه إمتلك حبالاً صوتيةً رهيبة لا تتناسب إطلاقا مع حجمه، بل هو في علاقة طردية مع حجمه الوضيع الذي يبدو كجرذٍ كبير، ظلّ يزلزل المبنى كلّه كلّما عنَّ له أن يعبّر عن سعادته بعودة أحد أفراد الأسرة إلى البيت، فيدهشني كيف لا تتمزّق حبال حنجرته بسبب هذا النباح المنكر.

أمّا في حال غياب أسياده فيولول بنوبة نحيب تزعزع الأبنية المجاورة أيضاً، ولا يتوقّف عن نواحه حتى عودة أحد الزوجين، ولم تُجدِ نفعاً تلك السدادات الطبيّة التي اعتدت أن أستخدمها لأكتم في أذنيّ صخب الدنيا سيّما لحظات القراءة أو الكتابة، لينتهي بي الأمر للتعبير للجار عن نفاذ صبري، ولكنه لم يبادر بما يدلّ على تعاطف.

وعندما فاتحت بقيّة الجيران في الأمر وجدتهم كلهم مصابون مثلي، كل ما هنالك أنهم يضمرون على عادة الإسبان، ولا يعبّرون عن استيائهم كي يجتنبوا الدخول مع الأغيار في مجادلات يدرون أنها لا تجدي نفعاً. وقد ظننت طوال المرحلة الأولى من سيمفونية الجحيم تلك أن الجرو الملعون مسعور، وعندما كشفت لي مريم بعد حديثٍ مع جارتها، صاحبة الكلب، أنهم عثروا على تلك اللقية في عرض الطريق، أدركت أن ذلك المخلوق اللقيط مسكونٌ حقاً، والجنون الذي يسكن حنجرته هو سعارٌ لا ينتمي إلى كلاب هذا العالم، وهو قصاصٌ لي لأني لم أستلطف يوماً هذه الملّة من المخلوقات التي يتباهى بها إنسان الحداثة، ويحسبها، من ضمن مستلزمات الترف المكمّل لمؤهّلات الإنتماء إلى بلاط مجتمعٍ رأسماله المظاهر. وها هي السلطات تستجيب لنداء هذا النفاق، فتكافيء أصحاب الكلاب بالإستثناء، زمن الوباء، فتمنحهم جواز سفرٍ إلى الحرية من دون الناس جميعاً، بسماحها لهم بالخروج، في وقتٍ كان يجب فيه أن تستنزل في حقّهم أقسى العقوبات، لأنهم أجرموا في حقّ الطبيعة عندما استقدموا من رحابها ذئاباً، ليزوّروها بفنون التدجين حتى تمسي مسوخاً يسمّونها كلاباً، تشاركهم الحياة في البيوت، ليتّخذوها حُجّةً ساذجةً تعوّضهم إفلاسهم الروحي.

الجمعة 10 إبريل 2020 م
الأجواء أيضاً تتضامن مع الوباء كما يبدو، فمنذ هيمن على مدينتنا وهو في حلفٍ مع مناخٍ عبوس، ملبّد بغيم شرّير، ظلّ طوال الأيام الماضية يستزرع فينا أقسى الكآبات، متحالفاً مع طبيعة أهل المكان المكتئبين بحكم الفطرة. يكفي أن نُحرَم شهراً كاملاً، في ظلّ سطوة الوباء، من قطرة مطر، ومن القدر المنتظر من الدفء، في فصلٍ بشّر بالربيع منذ أمد، ولكنه ما لبث أن تراجع في إقباله، وأدبر عن واقعنا البيئيّ الموبوء.

أسعى بين غرف البيت كما يسعى نمر أو أسد داخل قفص. الآن فهمت سرّ الطواف المزموم الذي يصيب الحيوانات الوحشيّة ما أن تُسجن في أقفاص. إنه المسّ المقدّس القرين لكتم الأنفاس، ولهذا يؤدّي إلى الجنون. أشعر بالإختناق بعد أن صدرت التعليمات باجتناب الخروج حتى إلى الشرفة المطلّة على المسبح، كأنّ السلطات تتعمّد إحكام القمقم، كأنّ الحظر أسعد السلطات فتعمّدت إحكام قبضة القمقم على أجسادنا إشباعاً لظمأ السلطة الفطري إلى كل ما من شأنه أن يحشر، أو يكمّم، أو يقمع. وها هي الدول التي تشدّقت بحريات الفرد، وحقوق الإنسان، حتى الأمس القريب، تتسابق اليوم في اختراع صنوف جديدة من الحجر لم تعهدها أوروبا حتى زمن الحرب العالمية. والواقع أنها لا تتسابق في هذا المجال، ولكنها تتنافس، كما تبرهن فحوى قوانينها الطارئة. فإذا كانت ألمانيا قد سنّت القانون الذي يمنع اجتماع الناس لأكثر من شخصين إثنين، فإن إسبانيا بادرت باستصدار قانون يبيح اعتقال الأشخاص إذا زاد العدد عن الشخص الواحد.

وقد أدهشتني هذه الصيغة في الأحكام العرفية التي تتحدّث عن منع اجتماع الإنسان لأخيه الإنسان إذا زاد التجمّع عن شخص واحد! فأيّ تجمّعٍ هو وجود الشخص إلى نفسه، وأيّ حكمة في تحريم وجود القرين إلى قرينه إذا كان قرانهما هو لتحقيق غاية شعرية، مباركة بحرف اغترابٍ هو هوية وجود، ليتبادلا غربتيهما في محنتهما؟ أم أن السلطات لم تتنكّر لتعاليم عرّافيها وحسب، بفعل البلبلة التي نشرها الوباء، ولكنها تنكّرت للقيم التي تغنّت بها، وصارت تعويذة الإتحاد الأوروبي، لتستعيد روحاً قمعية هي كلمة السرّ في عقليّة أية سلطة دنيوية. وطاعون العصر لم يكن في اللعبة سوى الحُجّة؟.

فما غاب عن أوروبا اليوم أن هذا النموذج الإنساني المدلّل، الأناني، الشقيّ بلا محدودية الحقوق، المعفي من المسئولية الأخلاقية نحو الوجود، أو ما اعتدنا أن نسمّيه واجبات، هو طينة من صنعها؛ لأن المغالاة في الخطاب الدّاعي إلى تنصيب المواطن معبوداً في صيغة حرية الفرد، إن لم يكن في الواقع استبدالاً لمعبود مقابل استجلاب معبود؟.

والدليل هو هذا الثمن الذي تجنيه أوروبا اليوم في سبيل إيقاظ هذا الفرد من غيبوبة سكرته، كي يتولّى مسئولياته المغتربة عن واقعه، لأن إعادة تأهيل إنسانٍ ضلّ، أعسر من تقويم الإنسان بحكم الصرامة التربوية، المفروضة بمنطق التنشئة.

السبت 11 إبريل 2020 م

سيارات الأمن تجوب الشوارع منذ الصباح لتلقّننا، عبر مكبّر الصوت، التعليمات التي تذكّرنا بخطر التردد على السواحل، أو التنقّل لقضاء الحوائج، سيّما الغذائية، بصحبة رفيق، أو تبادل الأحاديث مع أي مخلوق، والأصوب التضحية بكل شيء، والإكتفاء بالبقاء رهن البيوت.
الخلاصة أن الخناق يضيق، ولا شيء يدلّ على قرب انفراج. والخلاص الوحيد في إلتزام منازل تحوّلت مجرد جدران بعد تحريم الجلوس في الشرفات حسب تعليمات اليومين الماضيين، ليزداد الإحساس بوطأة السجن الذي بدأ يتحوّل زنزانةً مع مطلع كل يوم. فالخلاص الموعود رهن القبول بقدر الإنفراد، الذي لا يتيحه السجن، بقدر ما تفرضه الزنزانة.

فهل هذا كل شيء؟

كلّا بالطبع. فاليوم حمل في حقّنا قمقماً جديداً صدم الكلّ: أُعلن قفل الطرق المؤدّية نحو مدننا الأنيقة، السخيّة، التي تحكم الطوق حول تحفتنا "سالو"، من أركان الدنيا الأربعة مثل "تاراكّو" و"كامبريلس"، و"ريوس" و"فيلّا سيكا"، إمعاناً في العزل، لنجد أنفسنا نحيا السجن حرفاً، لا مجازاً، لا على المستوى الفردي هذه المرّة، ولكن على مستوى قطع الصلة بالعالم، بالمدن المجاورة، كتصعيد لقرار الإتحاد بقطع شرايين الوصل بين مدن المنظومة الإتحادية الأوروبية بعد إيقاف العمل بقانون كان حتى الأمس قدس أقداس، وسابقة خارقة، في سيرة التنقّل بحريّة عبر القارة، كما هو الحال مع "شنغن".

فنحن، منذ اليوم، نحيا منزلةً جديدة في معراج اغترابنا عمّا اعتدنا أن نستهين به، ليغدو مجرد الحلم بالخروج من البيت حدثاً استثنائياً، والوقوف على ساحل البحر فردوس فراديس، وإمكان تبادل تحيّة، أو محاورة صديق في عرض الطريق، معجزة تستحقّ الإحتفاء، والتنقّل بحريّة بهدف الحضور في بلاط "تاراكّو" الخالدة، الواقعة بالجوار، محالاً بعيد المنال. فكلّ ما نفقده بموجب قانون، أو بحرف تحريم، ينقلب رأساً، جنّاتٍ ضائعة، لا تستعير هوية الجنان إلاّ بموجب ضياعها.

السبت 11 إبريل 2020 م

ما لم أتخيّله هو أن يصبح الكلب، الذي استقدمه الإنسان من الطبيعة لكي يسجنه وراء قضبان أنانيّته، سبباً في تحرير الإنسان من سجن الوباء كما يحدث في واقعنا العبثيّ، بل والعدميّ، هذه الأيام، لنكون مدينين لهذه الجائحة بالعجب الذي صرنا له شهود عيان. وها هو الدليل يطرحه في وجهي جاري، الذي لا أشكّ كم هو سعيد وهو يراني أتحسّر من وراء قضبان سجني، في حين يتعمّد أن يستعرض حريّته، المكفولة بحرف كلب!.

هذا الكلب المسعور الذي احتقرت ملّته منذ الطفولة، وناصبته العداء منذ أول لقاء، ليتباهى أمامي بامتيازه المبرم بحرف القانون، في حين أختنق بسجني، كأنّ حرماني من مناجاة بحري الأوليسيّ الذي استدرجني يوماً إلى الجزيرة، لا يكفي! كأنّ منعي من ارتياد حقول الزيتون الهاجعة على طول التخوم الغربية لا يكفي! كأنّ الحيلولة دون مثولي في حرم أزمنة ما قبل التاريخ "تاراكو" قصاص لا يكفي! فلا تستحي القوانين من أن تفضّل كلباً، كان لي جلّاداً منذ البداية، على شخصي، فتسنّ القانون الغبيّ الذي يبيح لصاحب الكلب أن يتمتّع بحرية التنزّه، بفضل الكلب كأنها تنتقم لهذا الوحش الذي استجلبناه من فردوسه الطبيعي، وروّضناه على العبودية، ليكون الإذن له بالخروج من دون الناس جميعاً نوعاً من تعويض!

السبت 11 إبريل 2020 م

ها هو الإنسان الذي لا يعرف ما عليه أن يفعل بنفسه، عندما يجد نفسه في المواجهة مع نفسه، سيّما عندما تكون مفروضة بمشيئة خارجية كالوباء، يجبر إدارة الإسعاف النفسي على أن توزّع إلكترونيا إعلاناً ترجو فيه المواطنين بأن يكفّوا عن الإتصال بها، في حال إضطرّتهم ظروفهم النفسيّة لمحاورة نباتات البيت، ويستطيعون أن يفعلوا في حالة واحدة فقط: عندما تتنازل النباتات عن صمتها، فتستجير بسلطان الخطاب، لتجيبهم عن استفساراتهم!.

إعلانٌ طريف لا يخلو من درس. فالوباء الذي يسجن الناس ذهب بصوابهم إلى الحدّ الذي يعتقدون فيه أن مخاطبة نبوت المزهرية، أو شجيرة الزيتون، ضرباً من نوبة جنون، ولا يدرون كم هي النباتات، التي يستخفّون بمواهبها، كينونة مفرطة الحساسية، تستطيع أن تستجيب لمزاج مريدها، فتنتعش بنفحة حبّ من جنابه، وتكتئب أيضاً بنظرة غضب، أو لمحة عبوس في سيمائه، لأنها تتنامى بالحبّ أكثر من تناميها بالماء، وتذبل بالكراهة أكثر مما تذبل بغياب المياه.

وقد جرّبتُ، مع مريم، كيف تستيقظ الشجيرة المنزلية الآيلة للذبول من غيبوبتها ما أن نستنزل في حقّها ترياق الحنان، عندما نحيطها بفنون الإهتمام، وأجناس المداعبة، لنكتشف كم هي أطفال هذه الكائنات التي نقتنيها لأداء دور الزينة، ولكن لن يدهشنا أن نكتشف حقيقتها، عندما نعلم أن زينتها الحقيقية ليست في طلعتها، ولكن في ما احتجب عنّا من مواهبها. وكم مرة إستاءت من مسلكنا شجيرة "بونساي" التي اقتنيناها من متاجر الزهور بسويسرا، لأننا أهملنا مداعبتها، فابتأسَت وشحبت وكادت تغترب، برغم أننا لم ننس إروائها بحاجتها من المياه، ولم تستعد عافيتها إلاّ بعد أن اعتذرنا لها بطقوس الصلوات، وها هي تشاركنا مقامنا الجديد بعد أن بلغت من العمر ثلاثة عشر عاماً كاملة، ولم تخذلنا  أبداً؛ لأننا لم نعد ننسى أن نحيّيها مع مطلع كل صباح، كما نحاورها لنستودعها كلما ذهبنا لقضاء ليلنا. وكم مرة سخرت منّي مريم كلّما كفرت خطاياي في حقّ الشجيرة الفاتنة التي صارت تميمة تبدّد وحشة بيتنا، فلا أبخل عليها بتلك اللمسات التي أمسح بها ستور الغبار التي تغزو أوراقها بأصابعي كي أتحسّس ملمس أعضائها الهعشّة، فتبادلني إحساساً يوحي بامتنانها. فليتني أتمكّن من تنبيه رفقائي في سجن الوباء بأن الكابوس قد أحسن لهم من حيث لا يدري، وها هو يبلغ بهم برّ الخلاص ماداموا قد أفلحوا أخيراً بأن يستشعروا وجوداً لكائنات إسمها النباتات في بيوتهم، ويستطيعون أن يفاخروا بالشفاء، إذا كانوا قد استطاعوا أن يبدأوا حواراً مع هذه الكائنات، ليلقّنوا إدارة الإسعافات النفسيّة درساً لأنهم كانوا بالأمس مجرّد مجانين، ولم يفلحوا في العودة إلى رشدهم إلاّ اليوم، ليتغنّوا بلسان حالٍ يقول: "طوبى للوباء الذي استطاع أن يعيدنا إلى صوابنا، ويفكّ عقدة لساننا، فيفهم خطابنا النبات الذي اغتربنا عنه في حمّى فرارنا من أنفسنا".

فمملكة الطبيعة هي الحظيرة المفقودة، هي جنّاتنا الضائعة، التي سنكون ممتنّين للوباء إذا استطاع أن يهدينا إليها.