ها هي الأصوات تتنادى في كل مكان، بما في ذلك أمريكا المطمئنة إلى وقتٍ قريب، بضرورة اللجوء: للقمع. لأن بغياب القمع لن تفلح الجهود العالمية في إيقاف هذا النزيف العالمي التاريخي.

هكذا، بصريح العبارة، اضطر العالم أخيراً للإعتراف بغياب الإنضباط في عالمٍ مجبول على الإستهلاك، ومخدّر بجرعات سخيّة من إفيون حقوق الفرد التي جعلته منزّهاً، بل ونصّبته منزّلاً!

والمأساة حقاً أن إنسان الحداثة صدّق هذه المنزلة بوحيٍ من هذه الحداثة نفسها التي يتغنّى بها كقدس أقداس، ليبيح لنفسه اقتراف الآثام في حقّ الناموس الذي يرفض أن يعترف له بهذه المزايا كحقوق، لأنها تجديفٌ في حقّ الحقيقة، وبالتالي، في حقّ الألوهة.

فالتخلّي عن الإنضباط كان الحرف الأول في الأبجدية، لأن التغنّي بالإستهلاك يستدعي الجود بضحايا، والإنضباط كمفهومٍ كان كبش الفداء.

فمن الطبيعي أن تفقد السلطات السيطرة على الوباء إذا كانت قد أُخفقت في لجم موضوع الوباء، عندما فقدت السيطرة على الإنسان الذي يستهدفه الوباء، ليغدو الصراع، لمعالجة الوضع، مزدوجاً: صراعٌ مع الوباء، وصراعٌ مع ضحيّة الوباء التي تأبى إلاّ أن تهرع لترتمي في أحضان الوباء، لتتداخل الأدوار، لأن الضحية لا تلبث أن تستعير هوية الجلّاد، في النزاع مع السلطات، ليحتلّ الوباء في سلّم الإهتمام المرتبة الثانية.

فالإصرار الطفولي في رفض الإمتثال لقانون الحظر يكشف نزعة جديدة، لم تخطر على بال السلطات، في علاقة الإنسان ببيته، الذي لم يُخلق ليكون سكناً، ولكن ليكون سريراً لقضاء ليلة، كأنّ الناس لم يبتنوا البيوت ليسكنوها، ولكن لكي يستبدلوها بالمقام خارجها، ربّما بسبب الطبيعة الغيبية لمفهوم السكن كسكون، سكونٌ رديفٌ للمثوى الأخير، أي للقبر، وإذا كان الإنسان قد ارتضى على مضض أن يقبل بأن يقضي فيه ميتةً صغرى يسمّيها نومةً، فإنه يستنكر أن يتّخذه مرجعاً يمارس فيه نومةً كبرى يسميها موتاً. وهي قناعة تسكن قيعان الباطن، فإذا ارتفع صوت النذير ببلاغ الوباء، فأول ردّة فعل ستكون الفرار من الشَّرَك، من السَّكَن، من شبح السكون الأبديّ، لطلب النجاة في الخارج. وهو ما يعني أن السلطات في حاجة إلى علماء نفس في حربهم مع مواطنيهم الرافضين لقَدَرِ الموت وراء قضبانٍ لا يعدّونها مجرّد حبوس، ولكنها، في نظرهم، تغدو قبوراً، فلا تعود المسألة تتعلّق بغياب الإنضباط، ولكنها مسألة حياة أو موت، مما يعجز القوانين في إنقاذ الوضع، ليتحوّل المجتمع قطيعاً يندفع لملاقاة الموت، بدل أن يفرّ من الموت، مما يضع مشكلة الخضوع للقوانين على المحكّ، لأن الإستهتار بها كان جهلاً أصيلاً برسالتها الوجودية. وهو استهتارٌ يتخطّى حدود القوانين الوضعية، في بُعدها الحرفي، لأن جذوره تنتمي إلى الإستهتار بالقوانين في بُعدها الأخلاقي. فمن المسئول عن تربية هذه النزعة الإستهتارية؟

المسئول بالطبع هو أنظمة الحداثة التي أوهمت الإنسان بربوبيّةٍ مزعومة، ومُنكرة، في حمّى الهوس بالحرية. الحرية في حدودها القصوى، الأبعد منالاً، أي الحرية في بُعد الحلم، لتغدو حرية الفرد قدس أقداس، المساس به هو تجديفٌ في حقّ الألوهة التي نزهّت هذا المخلوق ونصّبته خليفةً لها على الأرض، لينال بهذا الشرف حصانةً مطلقةً، مترجمةً في تعويذة باسم: "حقوق الإنسان"، التي يغدو بفضلها كل شيء له مباحاً، ما ظلّ هو وحده المعبود، البديل للمعبود، فبأيّ حقّ يخضع لقانون طواريء، هو في عُرفه نزوة طارئة، أو يقبل بمنع تجوالٍ، يراهُ كتمَ أنفاس؟ كيف يعترف بالقوانين أساساً إذا كانت حمّى الهوس بالحقوق قد شلّت فيه الذاكرة، فنسي الثمن الجسيم الذي دفعته الأجيال في سبيل سنّ هذه القوانين التي يرجع لها الفضل في بقائه قيد وجود؟ كيف له أن يعلم كم توسّل أسلافه في اليونان إمام الحكماء السبعة "صولون" كي يقبل أن يضع لهم القوانين، ولم يتنازل إلاّ بعد أن أشترط عليهم عدم المساس بها، أو إحداث أيّ تغيير فيها لمدة عشر سنوات، وهو العليم بطينة الإنسان المَلُولَة، المبلبلة، العاجزة عن تغيير ما بنفسها، فتهفو بسبب هذا العجز، لتغيير ما بالعالم، ظنّاً منها أن الخلاص في تغيير ما بالخارج، وليس تغيير ما بالنفس الإمّارة بالسوء؟ ولكن الحكيم، العليم بوجود عقب أخيلوس مّا في روح كل مخلوق فانٍ، لم يكن ليكتفي بالعهود التي قطعها أهل اليونان على أنفسهم في سبيل الفوز بكنز القوانين، ولكنه اختار أقسى قصاص في تلك الأزمان وهو المنفى لكي لا يحرجه اليونانيون الذين يدري أنهم لن يحتملوا بقاء القوانين عشرة أعوام بدون تغيير، فيهاجر إلى مصر طوال تلك المهلة مضحياً بأغلى ما في الوجود، وهو: الحضور في الوطن!

هذا التقديس للقوانين هو ما ورثه خلَفه سقراط الذي لم يتردّد في أن يدفع حياته ثمناً مقابل الحرص على عدم المساس بالقوانين، عندما أقبل عليه تلاميذه باقتراحٍ يقضي بتهريبه من السجن كي ينجو من حكمٍ ظالمٍ بإعدام، ولكن سقراط رفض العرض، مفضّلاً مِيتةً جائرة حكم بها عليه اليونانيّون، لأن فراره تجديفٌ في حقّ قدس أقداسٍ هي القوانين.

وهو الدرس الذي لم تستوعبه الأجيال المحمومة بنيل المزيد ثم المزيد من الحقوق، مع تنصّل مطلق من كل ما متّ بصلة للواجبات.

فالواجب، المستوجب أن يكون حجر الأساس، في صفقة الوجود، بالمقارنة مع الحقوق، صار منذ زمن بعيد في واقعنا، ضحيّةً منسيّةً، لأن السعادة المزعومة، التي توهّم إنسان الحداثة أنه سيغتنمها بكمّ الحقوق، ستظلّ مغتربة ما لم نستعدها بحرف الواجب.

فالفائض عن الحاجة من غنيمة الحقوق التي يتباهى بها إنسان اليوم هي سرّ أنانيّتنا، هي سرّ لا أخلاقيّتنا، لأننا لا ندفع مقابل هذه الحقوق النصيب المستحقّ من الواجبات، لا نطهّرها بالتميمة المسكونة بحرف الواجب، فلم تباركها الغيوب لهذا السبب لتغدو في حياتنا حصناً. فالإستهزاء بالقوانين بدعوى سوء القوانين، لن يبرّر أبداً موقفنا المعادي للقوانين كمبدأ، وعلّ موقف سقراط من قوانين بلاده لنا درس، ومَثَلُنا المتداول الذي يقول: "الظلم عندما يسود عدالة" يبرهن على عقلية أسلافنا الذين لم يراهنوا يوماً على عدالة القوانين، ولهذا السبب لم يسيئوا الظنّ بالقوانين أبداً، لأن المكان المناسب الوحيد، بالنسبة لإنسانٍ يعادي قوانين المجتمع، مهما كانت جائرة، ليس المجتمع، ولكن البريّة، برغم وجود قوانين أيضاً في البريّة، ولكنها قوانين الطبيعة الأقسى بما لا يقاس من قوانين الحياة الحضرية. وأحسب أن محرّر هذا البيان يستطيع أن يشهد بهذه الحقيقة، لأن العناية الإلهية مكّنته من أن يحيا تجربة القطبين، ومن حقّه أن يدلي بشهادته للمقارنة بينهما. ففي الصحراء ضمانٌ لحضور الأبعاد القصوى للحرية، ولكنها حرية ليست بلا ضواط، ليست بلا انضباط، ليست بغياب سلطان الواجب. فالعبث بكائناتها يجرّ عواقب، والإستخفاف بقوانينها خطرٌ قد يكلّف الحياة، والخمول في حضرتها خطيئةٌ لا تغتفر. فالإستنفار هو دينها، واليقظة حرفتها، والعناء هو عملتها.

وأحسب أن درس الصحراء هو الذي مكّن إنساناً مثلي من قبول سوء القوانين في العالم الحضري، سواء إبّان الحقبة الملكية في ليبيا، سواء في الحقبة الجمهورية التي خلفتها، سواء في واقع الإمبراطورية السوفييتية، أو حاضرة حلف وارسو، أو فردوس الزمان سويسرا، أو واقع الجزيرة الإيبيرية.

وقد استطعتُ أن أجد لغةً مشتركة مع كل هذه القوانين، في مختلف مراحل تجربتي الدنيوية، لأن الصحراء حصّنتني من ذلك الجنس من الجشع المنكر، الذي تغذّيه فينا الإيديولوجيا، فتوهِمنا بأننا مهضومو حقوق، وعلينا أن نطلب المحال لكي ننال قسطنا مما نستحقّ أن ننال. والسكوت على هذا الحقّ المزعوم مكيدة لا في حقّ النفس وحسب، ولكنه مؤامرة في حقّ الحقّ، في حقّ الحقيقة التي تتطلّع الأيديولوجيا دائماً لاحتكارها كي تتمكّن من الإستحواذ على معبودتها الحقيقية: السلطة!

الجمعة 3 إبريل 2020 م

أسعدتني، في معتقلي، رسالة مصوّرة، تلقيتها بالبريد الإلكتروني، تعرض مشهداً مثيراً، هو يقيناً من إبداع عبقرية الوباء، المهووس بإنتاج المفارقات في عالمٍ لفظ فيه المخيال المبدع أنفاس النزع الأخير، منذ زمنٍ بعيد. الرسالة تروي شريطاً مصوّراً، يعكس حال واحة ضائعة في محيط الصحراء الكبرى، هي أوباري، مع سريان مفعول حظر التجوّل، عند حلول صلاة المغرب، فإذا بواقع الواحة، التي تحوّلت إلى مدينة، أو أُريدَ لها أن تفوز بلقبٍ مهيبٍ كالمدينة، قد خلا من السابلة، وكذلك المسجد الفسيح، ليهيمن على المكان سكونٌ كالعدم، ولا يبقى سوى صوت المؤذّن يتردّد عالياً، كأنّه نداء نعي، وليس دعوةً لأداء صلاة المغرب.

فمبدأ حظر التجوّل لم يُخلق لردع أهلٍ اختلوا ببعضهم البعض في صحراء اللابداية واللانهاية كالكبرى، تماماً كما يختلي العابرون ببعضهم البعض كلّما تقاطعوا في هذه الصحراء، لأن الناس في هذا الواقع لا يتلاقون إلاّ ليفترقوا بسبب طبيعة الصحراء التي لا تعترف في عرفها بالمقام، وإلاّ لما تنكّرت لأهم عنصر في صفقة المقام في المكان، كما الحال مع غياب المياه. ولذا ليس من حقّنا أن نصف هذا التقاطع بإقامةٍ من أيّ صنف، والصحيح أن نستخدم في هذه الظاهرة تعبير التقاطع، لأنه، بسبب طبيعته الوقتيّة، رهينُ فراق.

وواحة أوباري عرفتُها في زمنٍ لم تكن لتجرؤ فيه أن تستعير لنفسها هوية الواحة، أي في تلك المرحلة من بدايات ستينيات القرن السالف، عندما كانت مجرد امتداد لوادي الآجال المجيد الذي من حقّه أن يتباهى بماضيه الحضاري التاريخي الثريّ، الذي يكفيه أنه كان مهد الجرمنت، ولكن سوف يستحي في زمننا البئيس أن ينتحل لنفسه أي صفة لها صلة بألعابنا التي نعوّل عليها، بما في ذلك صفة الواحة، فكيف بالقرية، أو البلدة، أو المدينة، كما يحاول أهله، الحسنو الظنّ بجناب المدن أن يصفوه اليوم، ولا يدرون أنهم يلصقون به تهمة؛ بهذا اللقب، ولا يلبسونه فخراً؟

حللت بأوباري لأول مرّة عام 1962، في تلك المرحلة التي كان فيها موقعاً يتقاطع فيه أهل الصحراء، كل ذخيرته كانت تسكن جعبة تاريخه، أمّا مؤهّلات الواقع الفعليّ فهو وجود المياه الجوفية التي تسدّ حاجات العابرين، كما تروي ظمأ المتعبين الذين أنهكهم القحط في الصحراء، فاستجاروا به لالتقاط الأنفاس. وكي تكافئه الدولة الوطنية الوليدة مطلع الخمسينيات على هذا السخاء، قررت أن تعتمده كمديرية تلعب دور المركز الململم لكل المواقع المماثلة، الكثيرة، المتناثرة، عبر كل امتداد هذا الوادي الشاسع، من جانب، وسلسلة الكثبان الرملية من جانبٍ آخر، ليتواصل هذا الثعبان الطبيعي الآسر في رحلةٍ كان فيها في الزمن الغابر رسولاً يستقدم المياه من جبال تاسيلي وآكوكاس، ليدفع بها في حوض البحيرة الكبرى، التي لم يبق من أمجادها الفانية سوى بحيرات مندرة وقبرعون.

 وحدس الدولة الوطنية، لم يخطيء آنذاك؛ لأن بهَيمَنَة السِّلْم، الذي لم يعرفه وطننا الشقيّ في كل تاريخه، استطاعت هذه المهلة، الرديفة لمجرد التقاط نفس، أن تحوّل هذا الوادي شريطاً سخيّاً جذب الناس من كل فجّ عميق، ليتحوّل على مسافة مائة ميل وتداً  يحتضن العمران. ولكن العمران وحده لا يكفي لكي يخلق من الأمكنة مدناً مهما حاولنا أن نخلع عليها هذه الصفة. وهنا تكمن طرفة العهدة التي استلهمتها من هواة اقتناص الطرائف، لأن المنطق يقول أن حظر التجوّل تدبيرٌ اخترعه دهاة الأمم ليروّضوا به شغف أشقياء المدن بالتجوال، لأن الإسترخاء، الذي لا يلبث أن يتحوّل في حياتهم ترفاً قاتلاً، هو سبب الميوعة التي تحوّل أهل المدن أناساً مدلّلين، وأنانيّين، يتمرّدون على القوانين، ويرفضون أن يقادوا إلى الجنّة بالسلاسل، على النحو الذي نشاهده في الغرب اليوم، فإذا بأناسٍ يسكنون صحراء، نغالي عندما ننعتها بالواحة، يلقّنون الفئة المعنيّة أصلاً بتنفيذ حرف قانون الطواريء درساً قاسياً في الإلتزام بحظر التجوال، في واقعٍ بيئيّ، صحراوي، لا يكاد فيه الإنسان يرى أخاه الإنسان من فرط بُعد المسافة؛ لأن الفلسفة في اختراع حظر التجوّل أصلاً عملٌ من شأنه أن يحول دون أن يحتكّ الإنسان بأخيه الإنسان، لكي لا ينقل له العدوى، في حال حلول وباء، أو مَنع الإنسان من الإلتئام بأخيه الإنسان في حال الخوف من التظاهر، أو التآمر.