فيما تنقسم الآراء حول ما سيكون عليه العالم ما بعد انتهاء وباء كورونا، وفيما يبدو أن لا أحد يريد أن ينظر إلى الجانب المخيف من المشهد فإن الحقيقة المؤكدة أن هناك استقطابات سياسية ترشح تشكيل محاور سياسية ليست كتلك التي جاءت بعد انهيار جدار برلين ودفعت بالنظام العالمي الجديد الذي قادته بانفراد الولايات المتحدة على مدى العقود الثلاثة الماضية، بما فيه التحولات التي شكلتها واشنطن بعد هجمات 11 سبتمبر2001.

الصراع الأمريكي الصيني ليس بالمستجد، فثمة علاقة متضادة بين الحزب الشيوعي الصيني والليبرالية الأمريكية لم تتراجع إلا بتأثيرات محددة في التاريخ السياسي من بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الصراع وإن دخل مرحلة الانكفاء بعد السطوة الأمريكية على العالم والانفراد السياسي لواشنطن بعد انتهاء الحرب الباردة، غير أنه عاد من خلال التنافس الاقتصادي في العهد الصيني الأخير.

الصينيون يكادوا أن يكونوا المسيطرين على أسواق المال الأمريكية، قفزة الصين الاقتصادية ارتكزت على إرث فكري عميق للغاية، ولعل هذا ما جعل من الأمريكيين متحفزين دائماً للمواجهة مع الصين على اعتبار أن الدوافع الصينية ليست اقتصادية، وإن تلبست الغطاء الاقتصادي.

النفور الأمريكي الصيني له مسببات تاريخية فالأمريكيين يرون في الشرق أنه يمثل خطراً على القيم الليبرالية التي تدافع عنها الولايات المتحدة وتمنحها القوة في ثنائية المواجهة القطبية بين الشرق والغرب كما يشعر بذلك كل المفكرين الغربيين.

بنهاية الحرب الباردة لم تستطع هوليود أن تمحي عن عواصم الشرق صورة لينين أو ستالين وكذلك ماو تسي تونغ كمؤسس لجمهورية الصين الشعبية وواحد من أهم مؤسسي الفكر الاشتراكي في مرحلة الحرب الباردة، كل التقاليد الأمريكية الطاغية لم تنجح في طمس الإرث الشرقي الذي استعاد قوته من التوظيف الاقتصادي للصين الجديدة.

الأمريكيون كانوا يدركون تماماً أن النمو الاقتصادي في الشرق الآسيوي خلفه نهوض لتنين صيني انبعث من خلفيات فكرية كانت أحد عوامل القوة الاقتصادية وتسريع عجلة النمو في كل دول الشرق من آسيا، بل وحتى في مساعدة عديد من الدول النامية حول العالم، هذه البواعث من المخاوف كانت الأساس في احتدام الخلاف الأمريكي الصيني وإن توشحت بالتنافسية الاقتصادية التي أجاد في إظهارها للعالم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ليس من المهم أن يتحلق الصغار حول حلبة ملاكمة يقف في داخلها متصارع أمريكي وآخر صيني يتبادلان اللكمات، هذا مشهد لا يثير شيئاً سوى أهمية النظر في أن المتصارعين في الحلبة لديهما من القوة ما يجعلهما يواصلان جولات طويلة من الملاكمة ويشعلان من حولهما كل ما يمدهما من قوة لكسب هذا الصراع المفتوح دون النظر إلى أن هذا الصراع فيه إعادة غير مقصودة لبعث حرب باردة باستقطابات مؤدلجة كما كان الصراع الأمريكي السوفيتي سابقاً.

في واحد من أعمق التعبيرات التاريخية وصف رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل حال بريطانيا في قمة طهران 1943 بأن بريطانيا كانت كالحمار بين دب سوفيتي ومصارع أمريكي، تشرشل الذي كان لاعباً رئيسياً في وضع نهاية الحرب العالمية الثانية ورسم شكل العالم لم يجد تعبيراً يصف فيه حال بريطانيا إلا كالحمار بين القطبين الأكثر قوة وشراسة، وهذا ما يجب على المتحلقين حول الحلبة اليوم أن يستوعبوه من دول وشعوب، فالمخيف ليس أن يسقط أحدهما على الحلبة بل أن ينبعث من خلال المحتشدين مؤدلجين يتحملون فيما بعد صراعات ثنائية ستزيد من انقسامات العالم وتفتح المساحة لحروب وصراعات مستدامة بخلفيات متعددة.

الصراع الحالي قد يكون أول ضحاياه منظمة الصحة العالمية التي تبدو بلا حول ولا قوة تتلقى الضربات من القبضتين الأمريكية والصينية، وبرغم أن الكل يعترف بأهمية المنظمة كما يعترف الجميع عبر التاريخ السياسي بأهمية هيئة الأمم المتحدة التي منذ نشأت وهي لا تملك سوى عبارات الاستنكار والشجب والأسف على مئات الصراعات التي خلفتها الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

ما لا يمكن احتواءه لاحقاً أن تتسلل تلك الجماعات المتطرفة من تحت أقدام المتصارعين إلى المحتشدين حول الحلبة ليكرروا أزمات وصراعات وبعث خطابات الكراهية من مراقدها، فكما كانت حرب أفغانستان مجرد نار مستعرة تجلب الأموال وتبعث الأفكار الحارقة كذلك اليوم لدينا أكثر من أفغانستان واحدة في الشرق الأوسط يمكن أن تقيم حرباً عالمية ثالثة تفتك بأكثر من ما فتكت كورونا ببشرية مندفعة خلف استقطابات حادة كأنها لم تتعلم من تاريخها.