مرة جديدة ينفجر الصراع السيزيفي بشأن جدلية العلاقة بين التراث والمعاصرة أو الحداثة في عالمنا العربي، وكأنه قدر مقدور في زمن منظور أن نعود إلى حيث بدأنا قبل عقود طوال، إذ يجد المرء أن النقاشات الأخيرة رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لنقاشات جرت بها المقادير في بقاع وأصقاع عربية عدة من قبل.

يكاد التشدد يأخذ أصحاب التراث إلى أنه لا خير إلا في كل سلف، فيما تذهب جماعة الحداثة إلى أن الصالح والنافع في كل خلف، وكأن المشهد حدي وصراع بين الأبيض والأسود، أو حتمية ضرورية لأن ينفي أحدهما الآخر.

من أين يمكن للمرء أن يشخص واقع الإشكال؟ هل من الإرث الثقافي العربي، ذاك الذي يميل إليه نفر كبير من أبناء الناطقين بالضاد، هذا الإرث المثقل بتكلسات ذهنية، ترسخت مع مرور الزمن، فتحولت إلى أفكار وأحكام مسبقة، منها عدم الرغبة في مساءلة عقلانية لهذا الموروث، الذي يجري التعامل معه بشيء من القداسة، أو على الأقل باعتباره في الوعي العام، بمثابة رديف للدين، فلا نقاش للتراث ولا نقد له، وإنما تجميد وتمجيد فقط.

أم يمكن للقارئ المحقق والمدقق، أن يشاغب عوضا عن ذلك العقلية الحداثية المستغرقة في التغريب، إن جاز التعبير، والتي ترى الحياة بمنظور غربي، على أسس من اليوتوبية التي لا تقبل بدورها تفهم أن في التراث كذلك ما يمكن أن يخدم المعاصرة، لا سيما على صعيد المنظومة "الأكسيولوجية".

والشاهد أنه وسط هذا الجدال، الذي اشتعل والحيرة التي ضربت الجميع، يلجأ المرء إلى كبار العقول المفكرة من الفلاسفة العرب المعاصرين، والذين قدحوا أذهانهم من أجل التوصل إلى صيغة مؤامة بين المعقول والمنقول، وبين القديم والحديث، وفي مقدم هؤلاء يأتي الفيلسوف والكاتب المصري الكبير الراحل الدكتور زكي نجيب محمود (1905-1993)، الذي تناول هذه الإشكالية في مؤلفه العمدة تجديد الفكر العربي الصادر عام 1971 في دولة الكويت، إذ ألح عليه هذا التساؤل في وقت مبكر، ولعل هذا من خصائص الفيلسوف والمفكر العضوي المهموم والمحموم بالقضايا العميقة، وهو يدرك كزرقاء اليمامة، أنها ستضحى حجر عثرة عما قريب، وهذا ما هو قائم بالفعل في أوساطنا الفكرية والدينية.

طرح زكي نجيب محمود على ذاته وعلى قرائه علامة استفهام هي الأصل في الإشكال: "هل من طريق لفكر عربي معاصر، يضمن لأي مواطن عربي أن يكون عربيا حقا ومعاصرا حقا، من دون أن يكون هناك تناقض بنيوي في الأمرين، أو في صيغة التساؤل؟

للوهلة الأولى يبدو أن هناك تناقضا أو ما يشبه التناقض بين الحدين، ذلك لأنه إن كان عربيا صميما، اقتضى ذلك منه أن يغوص في تراث العرب الأقدمين، حتى لا يدع مجالا للجديد، أما إن كان معاصرا صميما، فإنه يكون محتما عليه أن يغرق إلى أذنيه في هذا العصر بعلومه وآدابه وفنونه وطرائق عيشه، حتى لا تبقى أمامه بقية ينفقها في استعادة شيء من ثقافة العرب الأقدمين.

يعنى الفيلسوف بالحكمة أول الأمر وآخره، وتأخذه الدهشة التي هي أم الفلسفة ومولدة التساؤلات، والأخيرة أهم من الإجابات، ذلك لأنها تدفعنا في أطر من البحث الواسع الخلاق، ومن غير أن تقف بنا أمام حدود طول وعرض لأجوبة قاصرة عن إرواء الباحث الظمآن.

شاغب الدكتور زكي نجيب محمود قبل نصف قرن، عقول العرب بتساؤلات عن التركيبة العضوية التي يمكان أن يمتزج فيها تراثنا بعناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربا ومعاصرين في آن، ولكن كيف؟ ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلف لنا الأقدمون؟ وهل في مستطاعنا أن نتخذ وأن ندع على هوانا؟ ثم ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة الجديدة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وأميركا كأنها الأعاصير العاتية؟ ثم هل في مستطاعنا أن نقف منها هذه الوقفة التي تنتقي وتختار؟

جرت هذه التساؤلات على ذهن المفكر الكبير قبل نصف قرن، ويومها لم تكن طروحات وشروحات العولمة قد سادت، كما أن ثورة المعلومات والاتصالات لم تكن قد انفجرت، كان العالم وقتها مقسما أيديولوجيا بين فسطاطين وحلفين، وارسو والأطلنطي، أي أن الأجواء كانت تدفع إلى سياقات من معنا ومن علينا، ومع ذلك فإن مساءلة الأيقونات كانت ملك عقل الدكتور زكي نجيب محمود منذ وقت بعيد.

وسط هذه الحيرة يقر الكاتب الكبير بأن عبارة للسير " هربرت ريد"، مؤرخ الفن الإنجليزي، الشاعر والناقد، الأديب والفيلسوف قد انتشلته من وهدة التضاد، يقول فيها: "إنني لعلى علم بأن هناك شيئا اسمه التراث، لكن قيمته عندي هي في كونه مجموعة من وسائل تقنية، يمكن أن نأخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن آمنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة".

كانت الكلمات السابقة موقفا مفتاحيا، وهنا لاح في الأفق الجواب عن السؤال العضوي: "ماذا علينا أن نأخذ من تراث الأقدمين؟ والجواب هو نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه عمليا، فيضاف إلى الطرائق الجديدة المتحدثة، فكل طريقة للعمل اصطنعها الأقدمون وجاءت طريقة أنجح منها، كان لا بد من وضع القديمة على رف الماضي، الذي لا يعنى به إلا المؤرخون.

هل يمكن إعادة بلورة الرؤية الفلسفية المتقدمة عبر كلمات أخرى؟

الجواب نعم، فثقافة الأقدمين أو المعاصرين، هي طرائق عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقة تفيدنا في معاشنا الراهن، أخذناها وكان ذلك هو الجانب الذي نحييه من التراث، أما ما لا ينفع نفعا عمليا تطبيقيا، فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأميركا.

المدار إذن هو العمل والتطبيق، المدار هو ما يعاش به، هو ما يستطاع سلكه في جسم الحياة كما يحياها الناس، أو كما ينبغي لهم أن يحيوها، فإذا ألفيت عند السلف طريقة تنفعني اليوم في بناء المنازل، أو في رصف الطرق، أو في إقامة الحياة الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة، أو في طرائق التعبير باللفظ عما يريد الناس أن يعبروا عنه مما تعتمل به نفوسهم اليوم، كان ذلك هو التراث الذي نحييه، وأما ما يبقى فلا مندوحة له عن أن يظل راقدا في أجداثه، مجالا لمن شاء من المؤرخين.

لم تكن نوازل العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، حاضرة على مائدة أفكار الدكتور زكي نجيب محمود، أوائل سبعينات القرن الماضي، لكن القياس الفلسفي والأخلاقي يعيننا في التفكر والتدبر جهة وسائط التواصل الحديثة على سبيل المثال بخيرها وشرها، أو ما قد يستجد ضمن ثورة الذكاء الاصطناعي القادر على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، وهناك أيضا قضية الانثقاف مع غيرنا من أمم وشعوب العالم، بعد أن تحققت نبوءة عالم الاجتماع الكندي "مارشال ماكلوهان"، تلك التي أطلقها في ستينات القرن الماضي عن القرية الكونية، ما جعل الإنسانية فعلا وقولا أسرة صغيرة غير قادرة على عيش ثقافة الإقصاء، بل تمضي مندمجة بطريق أو بآخر، فقد باتت المصائر واحدة، والأقدار عرضة للأخطاء والأخطار عينها، وعلى غير المصدق أن ينظر إلى أزمة فيروس كورونا الأخير، الذي لا ينفع معه التطرف أقصى التراث أو الحداثة، إنما المعيار هو خلاص الناس ونجاة البشر من كل شر ومكروه.

حيث مصلحة الناس فثم شرع الله، والسبت وجد من أجل الإنسان لراحته، ولم يخلق الإنسان ليكون عبدا طيعا للسبت، من هذا المنطلق يمكن إنهاء الجدالات البيزنطية التي لا تفيد، والتي كادت تتحول إلى حروب إعلامية ودعائية عبر وسائل الإعلام، ومن غير منتج حقيقي أنفع وأرفع للعرب في حاضرات أيامهم.

طرح القضايا المصيرية يبدأ من الذات التراثية أو الحداثية، لا من الآخرين، والمواءمة بينهما معلقة بشرط واحد وحيد.. حياة وحياة أفضل للجميع شرقا وغربا، في الحال والاستقبال.. فانظر ماذا ترى.